المقالة

الراديو

في تلك السنين كان الصمت لغة المكان ، لا يجرحه عدا نباح الكلاب المتقطع ، وبعض الأحاديث العائلية المبتسرة ، وصفير براد الشاهي الذي ينضج بهدوء على جمر الكانون ، الأخبار قصيرة المسافة والمدى، والموسيقى يتم اقتراحها من تلك الأصوات التي تتهادى من حنجرة الطبيعة، أو من تلك الآلات البدائية التي تحول زفير الإنسان عبر ثقوب القصب أو النحاس إلى نغم يعتمد تكرار الإيقاع كوسيلة لاقتناص الوجد ولهدهدة الحياة  الصعبة. إلى أن جاء زائر غريب ، يتحدث دون ملل ، ويأتي بالأخبار من أصقاع الدنيا ، يتحلق حوله الجميع مأخوذين بحديث طري دون شفاه أو لعاب يتطاير، وبأصوات منغمة ومدربة ، وبلغة تختلف عن لغة الحياة اليومية ، هذا الضيف، الذي سماه البعض صندوق العجب، أو الصندوق المسكون بالجن ، هو الراديو الذي عبره سمعت اسمي بفرح للمرة الأولى، ومن خلال صوت أبي يهدي لنا سلامه من مكة فرداً فرداً، والذي فعل فعله في حياتنا الاجتماعية وجعلنا نخرج من دائرتنا الصغيرة لاختبار عالم واسع وغير محدود.

أذكره في منتصف الستينات، دخل بيتنا بمعطفه الجلدي البني الكثير الثقوب، فملأه أول الأمر بالأشباح التي تتكلم دون أن تراها، ومن ثم بأغاني محمد صدقي وشادي الجبل وعلي الشاعلية ، وبأحاديث خديجة الجهمي ذات الصوت الدافئ الواقع في المنطقة الوسطى بين الأنوثة والذكورة، والتي تعلقت بها عجائزنا عبر أحاديثها القريبة من لغتهن وشؤونهن الحياتية ، تحولت هذه المرأة جارة لأمي، ومصدراً لمعرفتها فيما بعد، وغير ذلك وفر هذا الضيف الجديد إمكانية متابعة الفن الشعبي، للنساء خصوصاً ، ودون عنت ، فكان صوت الشاعر عبد السلام الحر الذكوري والجهور مائدة إثارة للنساء البدويات ، وفي المقابل كان صوت الشاعر محمد العوامي الرخيم مفعماً بشجن حارق خصوصاً عندما عُرف أنه شاعر كفيف يجيد الوصف الحسي ، والأهم من ذلك كانت متابعة معارك الهجاء بين الشعراء، والتي تصل إلى درجات عالية من السخرية التي يمكن أن تسبب في عصرنا هذا العديد من المعارك الدموية، أو رفع قضايا التشهير .

كنت مأخوذا بذلك الشغف الذي يحتشد في عيون البدويات حين يتجمعن لسماع الشعر الشعبي ، وأنا أرى عن كثب ما يفعله الشعر في أرواح العذارى وأجسادهن ، فتتسرب إلى رغبة جامحة في أن أقول الشعر وأحظى يوما بهذا الشغف الأنثوي ، وحين كان المعلم يمرر علينا سؤال يتعلق برغبتنا في ما سنكونه في مستقبل الحياة ، أجبت : أريد أن أكون شاعرا ، فضحك وقال: الشعر ليس مهنة.

بلور دخول الراديو معنى الكيان، وشكّل مفهوم الدولة بمعناها السياسي، وبعد أن كانت الأحاديث مقتصرة على المطر والكلأ وشؤون القبيلة، صارت تدور حول قضايا أوسع؛ من أخبار تغيير الحكومة، أو تصدير النفط، أو  حرب تشرين، أو اغتيال الرئيس كينيدي .

من المواقف الطريف التي حدثت في قريتي “القيقب” التي كان  يوجد بها مذياعان فقط، أحدهما لعائلة بوسرايا المعروفة بالرزانة والانضباط والصدق، والآخر لعائلة عيت بالحسن المعروفة بالمقالب والمشاكسة والمبالغة في الأحاديث. بعد سماع نشرة الظهيرة في إذاعة لندن عبر المذياعين الوحيدين في القرية، يلتقي الشيوخ في السوق معلقين عن ما سمعوه من أخبار، وحين أدلى أحدهم بخبر اختلفوا حول صحته ، سألوه : في أي راديو سمعت الخبر ؟ فرد في راديو عيت بالحسن ، فقال أحدهم فوراً: “خلك منه. راديو عيت بالحسن كذاب.

كان الراديو يتحول إلى كائن اجتماعي ويتصف تلقائياً بصفة العائلة التي تملكه ، وكانت الأخبار الموثوق بها هي التي تأتي بها لندن في راديو عيت بوسرايا.

صار الناس يسمون الصخب أو كثرة الكلام (اقرنج) وهي مفردة محرفة لمفردة قرينتش التي تتكرر كل ساعة معلنة عن التوقيت الذي يضبطون عليه ساعاتهم . مفردة تتكرر في جهاز ثرثار اكتسبت بعد التحريف دلالتها الشعبية، مثلما يطلقون على الحديث الطويل الذي لا ينتهي (جرنان)، وهي أيضاً مفردة محرفة للجورنال التي تعني الجريدة. وفي الحصيلة هذه الدلالات الشعبية الجديدة كانت تنطلق من حس شعبي تجاه وسائل الإعلام كونها مرتبطة بالثرثرة والكلام الذي لا ينتهي، إضافة إلى إذاعتي صوت العرب والشرق الأوسط ،وهما الإذاعتان اللتان كان لهما دور كبير ومؤثر ، عبر خطب عبد الناصر وما يرافقه من حماس قومي، وعبر الموسيقى والمسلسلات والبرامج الخفيفة والناعمة في إذاعة الشرق الأوسط ،التي جعلت معظم الليبيين، خصوصا في شرق ليبيا، يجيدون اللهجة المصرية . عبر الراديو هبطت الموسيقى من برجها واجتاحت المكان والزمان ( موسيقى دون إحساس كما يقول شونبرغ في صدد حديثه عن الراديو ، أو الموسيقى المتحولة إلى ضوضاء مجهولة المؤلف ). كانت أمي لا تستطيع معرفة الساعة ، ولتوقظني في الصباح للمدرسة تنتظر موسيقى مقدمة أحد البرامج في إذاعة الشرق الأوسط ، وهي الموسيقى التي كرهتها حتى الآن لأن سماعها كان يعني مغادرة فراشي الدافئ إلى برد القيقب اللاذع .

في أواخر الثمانينات سمعت اسمي للمرة الثانية في الراديو، عندما قدم لي الصديق عبدالرسول العريبي قصيدة في برنامجه الإذاعي اليومي “مساحة ود” ، حيث قرأ مقدم الرنامج إحدى قطعي النثرية التي اعتبرها قصيدة أهم من قصائدي التي كانت تلاحق التفعيلة والقوافي . ربطت الكاتب عبدالرسول العريبي صداقة بشقيقي عندما كانا يدرسان معا في المعهد التجاري بالبيضاء، ولأنه كان أحيانا يزورنا بقرية القيقب كنت أطلعه على ما كنت اكتبه من خواطر عندما كان عمري ست عشرة سنة ، ومازلت احتفظ بهوامشه وملاحظاته على كراستي الصغيرة حتى الآن .

ما يسر أن الراديو مازال صامدا أمام هذا الطوفان من التقنيات الخبرية والترفيهية، بل أنه ألحق بوسائل المواصلات والاتصالات الحديثة، واكتظ الأثير الكوني بملايين القنوات الإذاعية الإخبارية والترفيهية والخدمية التي استطاعت أن تختار ملاعبها في قلب هذا الزحام وتحافظ على أهميتها ووجودها.

________________

نشر بموقع 218.

مقالات ذات علاقة

أفيون الاقتباسات المبتورة!

عمر أبوالقاسم الككلي

عام المرأة الليبية الروائية!

فاطمة غندور

أين ليبيا التي عرفت؟ (29)

المشرف العام

اترك تعليق