المقالة

الذي بيته من زجاج لا يرمي الناس بالحجارة

خلال النصف الأول من التسعينيات القرن المنصرم، أصبحنا نحلم سياسياً، وفي الصلوات الجهرية كنا نندهش من سماعنا، لصدى كلمة “آمي” ضمن آخر أية في سورة الفاتحة، التي ليستْ سوى: أمين، ربما بسبب حداثة السن، الاستعجال، الأحلام وعدم اتقان اللغة العربية التي لا يتحدثها الطفل التباوي في الأغلب إلا بعد دخوله المدرسة، كنا نسمعها آمي ممدودة، تدغدغنا أثناء الصلاة، فنستغرق في ضحكات مكتومة.

آمي” كلمة تباوية تعني: الصخر أو الحجر وهي تأتي بمعنى الجبل أيضاً، فحين اعتصم ثوار من التبو ضد إريس دبي، بجبال تبستي، انتشرتْ كلمة آمي كرمز سياسي شعبي بين التبو. كنا صغارأ آنذاك، لكن هذا لم يمنعنا من متابعة الأخبار المتعلقة بالسير العمليات المسلحة بلهفة بالغة، نستمع لكل خبر جديد، التحاق الشباب من كل المناطق لتلك المعارك القاسية، الانتصارات، الهزائم، إنفجار الألغام، خلال احدى الانفجارات أُصيب قائد تلك الثورة يوسف توغي مي. اصابته لم تكن قاتلة، يروي البعض بأنها كانتْ في رجله وليستْ بتلك الخطورة، لكن نظام القذافي أعلن وفاته في ظروف غامضة، حيث كان يُعالج في مستشفى بطرابلس، آنذاك ضمن كل جلسة تباوية كانت كلمة الآمي محور الحديث.

هذه ليستْ مسألة جديدة في المنطقة، ولا خيالات طفولية: أعني اختلاط الكلمات الدينية بالسياسية، ومحاولات الاستفادة من الرموز الدينية ضمن مشاريع دنيوية، فأغلب المذاهب الدينية ظهرتْ بسبب معضلات سياسية، ربما أبسط طريقة لإفتعال الثورات هي مزجها بأحلام دينية مجتزأة، بدايات فبراير 2011 ، أعلن أحد شيوخ بأنه رأى الرسول في الحلم وإنه أعلمه بالانتصار المؤكد للثورة الليبية، كما إن الاعلام الجماهيري الداعم للقذافي، أعلن بأن مسألة تبني المجلس الأمن لقرار ضد القذافي منافي للدين الاسلامي، لأن التبني نفسه محرم شرعاً. نادراً ما كانت تلك الدعوات تنجح في تحقيق أهدافها، في حين فشلتْ بشكل ذريع في بعضها، لكنها لا تنتهي قط من الطبيعة السياسية المكونة للمنطقة، جميع ثوراتها ستشهد بلا شك دعوات دينية تغلف بشاعتها، وتحث الناس على الانضمام إليها.

إنما الثورات المسلحة في جبال تبستي كانت في الأغلب تحمل الصبغة القومية، فالدين لم يكن الركيزة الأساسية في سبيل توطيد نفسها، فقد اكتسيتْ بالدعوات القومية مثل أغلب الثورات التي تحدث للانفصال عن عرق مختلف يحكم بأساليب ظالمة، مع ذلك لا يمكن إنكار قيمة الدين لأجل إشعال الثورات فمثلاً سكان برقة ما كان لهم إلا الدعوات الدينية، لتحقيق مكاسب سياسية أو على الأقل إشعالها أولاً، في حين لا يمكن للأمازيغ مثلاً استخدام الدعوات الدينية الصرفة للأجل ذلك، إنها مثل كل التجمعات المختلفة التي تجد قوميتها ضعيفة أمام الدين، غالباً تعمل على الانتساب ضمن دين مختلف أو في أقل الحالات تطرفاً تتقمص مذهباً مختلفاً حماية لهويتها.

حالياً يمكن ملاحظة هذا الفرض في استخدام طرفي النزاع ضمن البلاد للتفسيرات الدينية – بالرغم من وجهتيهما المتناقضتين وتطابقهما الديني والمذهبي – كل طرف يستخدمها وقوداً لحربه، بديلاً عن المسائل التاريخية التي لا تجدي من أجل الاصطفاف. التبو هم الطرف المختلف في البلاد حالياً، فهم ليسوا عرباً لكنهم يبدون في جانب القوميين العرب، أمر يدعو للاستغراب، لكن المؤكد إنها مسألة تاريخية بدورها.

منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى نهايات القرن العشرين، اصطدم التبو بمختلف القوى الاستعمارية: حشود ضخمة من إيالة طرابلس ومتصرفية بنغازي، القبائل المصرية زمن محمد علي باشا، ثم بدايات القرن المنصرم قام مقاتلي تبستي بإبادة المئات من الجيش الفرنسي – السنغالي، أوقفتْ تقدم القبائل السودانية، دمرتْ الحملات التركية، أبادت مغامرين من قبائل الجنوب الليبي ضمن حادثة ظلتْ حية في وجدان البعض، قرنين مشتعلين بالحروب حتى وطأ القذافي للمرة الأولى تلك الأراضي مع قواته مستعمراً، طلب اصطحابه إلى حيث مدافن مغامري القبائل، بالرغم من التصرف الانتقامي الواضح ظن البعض بأنه كان يستعرض قوة ذاكرته من خلال معرفته التاريخية، تبين عكس ذلك حين نسى جثث الجيش ملقاة في الصحراء، ثم أنكر علناً تذكره لقائد يُدعى حفتر من بين قواته.

لاحقاً أكد حفتر بأن القوات الصديقة – المكونة من التبو عموماً – سبب الهزيمة التي لحقتْ بالجيش الليبي، حتى تلك اللحظة الفاصلة لم يكن التبو قد خرجوا من حركة التاريخ، إنما عدم محاولتهم بناء كيان سياسي، يُرجعه بعض المؤرخين لانضمامهم المبكر إلى السنوسية، واعتبارهم لها تحقيقاً لآمالهم الآخروية شاملة أمورهم الدنيوية، إذ شاركوا ضمن حروب السنوسية ضد الإيطاليين بلا أية ضمانات سياسية، وهي الفترة التي تكونتْ فيها علاقتهم المباشرة مع قبائل برقة الليبية، في ذات الوقتْ كانت حروبهم ضد الفرنسيس مستمرة، مع توطيد علاقاتهم مع قبائل فزان، قبل أن يتبدل الوضع مع نهاية السبعينيات، التي شهدتْ جموداً في الحياة السياسية التباوية، لا يمكن تغاضي عن دور القذافي فيها، إذ أجج الخلافات القديمة – مستخدماً أسلوب الثنائيات المعيشية – بين التبو وأهالي منطقتي برقة وفزان، اللتين تضررتا كثيراً في الحرب التشادية، سياسية اتبعها أغلب رجال الجيش الليبي تبريراً لهزيمتهم متجاهلين جميعهم الضرر الذي أصاب التبو آنذاك كما تجاهلوا سابقاً الضرر الذي وقع بدايات القرن المنصرم.

فالضعف القومي الذي اجتاح تبستي كان بسبب تقبلها للحركة السنوسية، التي استخدمتْ الدين في سبيل الوصول لمناطق تجارية كان التبو يسيطرون عليها، أو يتسببون بالمشكلات تمنع مرور القوافل عبرها، تلك المنطقة عُرفتْ ضمن نصوص المؤرخين والرحالة ببلاد التبو، ذلك حتى بدايات القرن العشرين. بالرغم من إن السنوسية خارجياً ارتبطتْ دوماً بالإرهاب، وقتل الأجانب، لكنها داخلياً كانت ذات قدرة مدهشة على خلق مناخ السلمي بين الأطراف المتصارعة، مما ساعد على نمو اقتصادي سريع.

إنها القدرة التي افتقدها النظام الجماهيري، الذي حاول دوماً استثمار التربة التي تركتها السنوسية محروثة من أجل التوغل في الأراضي التشادية، لكنها ظلتْ منطقة استنزاف مستمرة، فالتاريخ يفسر سبب الخسارة التي تعرض لها الجيش الاستعماري آنذاك، مد أذرع بالقوة المفرطة من أجل بسط السيطرة بإستخدام أسلوب الأرض المحروقة، خليفة حفتر الذي تدعمه قوات التبو – حالياً – في حربه ضد مليشيات الدروع، كان أحد تلك الأذرع. مرة أخرى يبدو الموقف التباوي غريباً. التفسير الذي يُلغي الاندهاش يتمثل في غياب المشاريع السياسية لدى التبو، القومية الوحيدة التي لم تطمح لبناء كيان سياسي لها في المنطقة.

أثناء التسعينيات حين ثار التبو – ضد إدريس دبي – في شمال التشادي، المنطقة التي فقدها القذافي بعد أن ضمها السنوسيون بهدوء، حاول العقيد فرض نفسه – باستخدام العامل الاقتصادي – على تلك التمرداتْ – وهي صفة اتخذها نظامه، كداعم للحركات التحريرية حول العالم، وريثاً للناصرية مما دفع الغرب إلى وضعه ضمن قائمة الدول الداعمة للإرهاب، نتيجة تصرفاته اللا مسؤولة – إنما هذه المرة كان التدخل لأسباب مختلفة، احداها محاولة لبسط السيطرة بأكثر مما فعلتْ السنوسية، فالقذافي في الفترة الأخيرة كان يود وضع نفسه بديلاً عن الملك إدريس في الوجدان الليبي، إمامته للأفارقة في الصلوات مثلاً، لذا كانت رؤيته للعلم السنوسي مرفوعاً في بنغازي خلال الثورة مسألة مؤلمة بالنسبة إليه أكثر من فقدان بنغازي نفسها، والمسألة الثانية التي دعتْ العقيد لمحاولات فرض نفسه على الثورة في تبستي هي رغبته في تحطيم تلك المنطقة معنوياً، بالرغم قلة المعلومات لا يُستبعد أن تكون الثورة المسلحة ضد إدريس دبي انتقاماً مبطناً، بأسلوب عصفورين بحجر واحد: تأديب نظام إدريس دبي الذي بدأ يبحث عن طريقة للتحرر من سيطرة القذافي للمنطقة الأفريقية آنذاك، مع تدمير منطقة كاتتْ تنذر بالثورات على امتداد الجنوب الليبي، في احدى خطبه – أغسطس 2008 – أمام مسلحي الطوارق أعلن القذافي بأن التبو يفكرون بإنشاء دولة.

مطلقاً لم يتجاوز هزيمته العسكرية، رؤيته للجيش الليبي يترك مواقعه القتالية منهاراً نحو العمق الليبي حتى إن شائعات انتشرتْ تعلن توغل قوات العدو لمئتي كم في البلاد، فأضطر لجلب قوات عربية من لبنان وفصائل فلسطينية لحماية الحدود، قلص مرتبات الجيش عقاباً، همش دوره في الدولة، استبدله بالكتائب الأمنية ثم أخذ يهين جنوده متيقناً بأن الانتقام من الجيش سيحل مرارة الهزيمة.

خلال فبراير 2011 إثر ثورة شعبية، رأينا مذهولين: طائرات الحلف الأطلسي مع قرابة أربعين دولة تحطم الآلة العسكرية للقذافي الذي سمعناه يصرخ متسائلاً بهلع عن كل تلك القنابل التي تتساقط فوق رأسه ثم أعلن متوعدا بعض الدولً بالإنتقام: بأن الذي بيته من زجاج لا يرمي الناس بالحجارة، هو الذي قضى حياته يرمي الناس بالحجارة، تلقى فوق رأسه أحجاراً مدمرة كالجبال.

_________________________

نشر بموقع هنا صوتك

مقالات ذات علاقة

غاية الكتابة

حسن المغربي

ودعا يا صاحبي، ادريس المسماري

المشرف العام

تعرف إيه عن المنطق؟!

المكي أحمد المستجير

اترك تعليق