من أعمال الفنان محمد الشريف.
قصة

الداليا – الحلقة الثالثة

الداليا.. قصة معاناة ليبية

حسين تربي

.

الحاج بوداليا: الزوز يا خلوفه الزوز.. مخانب وبوليس.. حاميها حراميها يا خلوفه.. يا ويلهم من اللى يمهل ولا يهمل.. أأه من ها الايام السودا.. يارب.. فرّج علينا هالغمه يارب

الحاج خليفة: الزوز؟ وشني خنبو منك؟ خللي توّا نلحقهم فروخ الحرام

الحاج بوداليا: لا لا يا خلوفه لا.. خلليهم يمشو في ستين داهيه.. محمد يا حاج، محمد! خنبو مني محمد يا اوخيي.. داروها فينا فروخ الحرام.. قتلو محمد في الحبس

الحاج خليفة: لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.. انا لله وانا اليه راجعون.. آمتى؟ كيف؟ حسبنا الله ونعم الوكيل.. تكيف ايصير هالكلام يا سبحان الله؟ المحبوس يعتبر امانة عند الحكومة والمفروض ايحافظو عليه مش يقتلوه.. انت متأكد يا حاج؟ بالك كذبو عليك فروخ الحرام

الحاج بوداليا: لا في هالموضوع ما يكذبوش المجرمين.. الا في موضوع القتل ديما صادقين.. والحكومة الفاسدة ما تبلّغش ناس المحبوس الا لمّا الموضوع ايكون اكيد.. الله لا يسامحهم.. الله لا يسامحهم فروخ الحرام

واطلق الحاج بوداليا لقريحته ولصوته العنان في انتقاد الحكومة الاستبدادية والدعاء على المشاركين في الانتهاكات التي تمارس على الشعب الليبي بسبب افكار فرد ليبي واحد. وأحس الحاج بوداليا بأن جريمة قتل ابنه في سجن بوسليم على ايدي الثوريين، أحس ان تلك الجريمة قد حررته من خوفه من سلطات بلده الدموية ولم يعد يأبه بما يسجل خونة ليبيا الأم ضده. وسمع الكثير من المتسوقين اصوات ثورة غضب الحاج بوداليا.. تلك الاصوات التي أتت في عفوية وصدرت من القلب الذي طحنه الالم.. من الصدر الذي طعنته الثورة. توقف الكثيرين من المارة ليستمعو لنحيب هذا الليبي العجوز المنهك وهو يفرغ بعضا مما ضاق به صدره من ظلم ثوري ويعلن تحديّه لمحتكر السلطة وافكاره التي قتل باسمها الالاف من الليبيين وليعلن كذلك رفضه لارهاب القيادة الليبية الذي تمارسه على هذا الشعب المسكين.

الحاج خليفة: الله ايفرّق فراقهم انشا الله

الحاج بوداليا: الله يلعنهم السفاتيل.. قاعدين يقتلو في العباد ويجوّعو في الناس ويكذبو علينا ويقولو هادي سلطة الشعب.. في ستين مليون داهيه انشا الله هالسلطة.. ما نبوهاش.. نبّو رئيس او وزير زينا زي باقي الدول الثانيه.. نبو حكومه نتفاهمو معاها مش فوضى وكومونات وكلام فاضي.. الله يلعنهم خرّبو البلاد وجوّعونا وفروخهم قاعدين يتفسحو في بلاد برّه بفلوسنا.. بفلوسنا السفاتيل قاعدين يسكرو ويعالجو لبرّه ويشرو في السيارات والفيلات.. ويوزعو في رزقنا علي تيوس افريقيا وناسهم في ليبيا قاعدين يشحتو في الشوارع.. الله لا يسامحهم.. وقاعدين يقولولنا ” غير وسّع بالك” اللى ما يتحشموش.. ما خللولنا بال نوسعوه.. قتلو ولاد الناس بدون حق.. قتلو محمد.. ولدي محمد قتلاته الثورة.. اينعم اشهدوا يا ناس ولدي محمد قتله الفاتح.. ولدي محمد قتله فكر القذافي وقتلوه اللى يحمو في حكم القذافي.. منك لله يا ظالم.. منك لله.. وين العدل ياعالم؟ وين القانون يا هووه؟ غدرو بيه المجرمين في بوسليم.. منكم لله يا كلاب الدم.. منكم لله يا منافقين يا ثوريين.. درهتو كبودنا وضيقتو خلوقنا الله ايضيقها في وجوهكم ان شاء الله.. ان شاء الله اللى درتوه فينا تشوفوه في صغاركم وصغار صغاركم يا سفاتيل.. ربي ياخذ منكم صغاركم ويحرمكم منهم يا مجرمين بيش تحسو باللى احنا فيه.. وانتم يا شعب يا منافقين يا كذابين وخوافين قاعدين من التسعة وستين وانتم اتهزو في خصاويكم ودايرين روحنا تريس نبرمو في شناباتنا ومانا فالحين الا في التفنيص في بعضنا.. نوضو من رقدتكم.. الله لا يسامحك يا ظالم والله لا يسامحنا على اللى درناه في ليبيا.

حاول الحاج خليفة مساعدة صديقه وجاره، لكنه أحس بأنه لا يستطيع أن يطلب من الحاج بوداليا السكوت تحسبا لوجود ” كاسر وذنه ” من الذين باعوا ضميرهم قربانا لثورة قامت من أجل الاستيلاء على وثيقة تملّك ليبيا بالكامل. ترك الحاج خليفة صديقه يشتم الاوضاع السيئة للمجتمع الليبي الفقير والمتسببين في خلق تلك الاوضاع التعيسة، ولم يخاف الحاج خليفة من أنه قد توجه له تهمة ” متعاون مع ناقم”.. ففي ” عصر الجماهير ” كل مواطن قابل للعصر.. لكن الحاج خليفة أحس بما يشعر به صديقه بوداليا واعلن تضامنه الكامل معه.

الحاج بوداليا: ايجيك يوم يا ظالم.. ايجيك يوم يا كذّاب يا اللى قاعد تضحك علي الناس وتبيعلنا في الهوا.. منكم لله.. منكم لله.. الله يعطيكم سحيقة تسحقكم وتسحق ذريتكم.. صغارنا رفعتوهم لتشاد يا فروخ الحرام ورميتوهم في الصحرا وشردتوهم في العالم كله.. قتلتو صغارنا في الحبس من غير تهمة.. شنقتو صغارنا في شهر الصيام يا اللي ما تستحوش.. في رمضان يا ناس! في رمضان المنافقين كلو رزقنا بالحرام وقتلو صغارنا وشنقوهم وقعدو يدرجحو في كرعيهم ويورّو فيهم في التلفزيون والناس صايمه.. بيش ايخوفونا بالفاسدات الثوريات والفاسدين الثوريين.. حتى الفاشيست الطليان ما ادرجحوش في رجلين عمر المختار.. لكن الثوريين الفاسدين داروها وقعدو يصفقو ويدرجحو في رجلين الميتين وزعيمهم يتفرج ويضحك.. داروها الفاسدين اللى ماعندهمش لا دين ولا ملة.. وكله على خاطر ثورة ما تستاهلش ولا قطرة دم ليبية.. توبو يا مجرمين.. ارجعو لناسكم ولبلادكم.. سادنا عفنكم.. سادنا فوضتكم.. سادنا كذبكم.. رانا عرفناكم وفقنا بيكم.. توالله الشعب الليبي ماهو راضي عليكم ولو اتديروله قصر من الذهب والفضة.. شبابنا يستاهل كل خير.. حرام عليكم شردتوهم في الغربة يا واكلين ارزاق اليتامي.. محمد شني دارلكم يا كفره؟ محمد ما كانش لا يكره بلاده ولا ناسه.انتم السبب.. انتم السبب في كل البلاوي والنكد اللى شفناه.. الله ايهد حيلكم زي ما هديتو حيلنا.

واستمر الحاج بوداليا في هجومه على الثورة والثوريين أمام الجميع.. وذلك كردة فعل عفوية أستولت عليه بعد سماعه لخبر مقتل ابنه على أيدي السجّان الثوري. ما أحوج ليبيا لردات فعل عفوية كهذة!

البعض حاول تخفيف وطأة وقع هذا الخبر الحزين على الحاج بوداليا وتقديم العزاء له في فقدان ابنه، بينما غادر البعض الآخر السوق ضاربين كفا بكف في أسى وفي احباط أجبرتهم ثورة الفاتح لتسويق الاوهام على التعايش معه. أنتشر خبر مقتل محمد ابن الحاج بوداليا في سجن بوسليم على أيدى الثوريين في المدينة بسرعة.. وتم الاتفاق التلقائي على اقفال محلات السوق حدادا وحزنا على فقدان أحد شباب المنطقة قبل الموعد المحدد للاقفال بساعتين! بالضبط كما يفعل تجار الآراضي المحتلة عند سماع خبر استشهاد أحد أبنائهم.

في لحظات غليان مشاعر الحاج بوداليا، كان بيده كيسا بلاستيكيا أسود اللون ظل يعصره ويلويه في عفوية ولكن بقوة حتى تحوّل ذلك الكيس الى ما يشبه الحبل الأسود.

بوداليا: ومن خوفهم فروخ الحرام ما يبوش حتى ايسلمو الموتي لناسهم بيش يدفنوهم.. الله يلعنهم في الدنيا وفي الآخره.. وكل الناس اللى بلغوهم قالولهم ما اتديروش عزا.. وراهو الحكومه تكفلت بدفن صغاركم.. ولا فحص للجثة ولا شهادة وفاة.. توّا هادا مش شي يبغدد ويخللى الناس تكره جد جدود الثورة؟ حسبي الله ونعم الوكيل.. يا خسارة شبابك يا اوليدي.. يا ناري على امك المسكينة ووخياتك اللى قاعدات ايراجن فيك.. الله ينتقم من الظالم

الحاج خليفة: اللهم أمين يا رب بجاه سيدنا محمد ونهار هالجمعه.. ارحمنا يا رب.. سادنا وفكنا من هالغمه.. والله مانا عايشين واللى ما يبكي غاصراته العبره.الصبر يا حاج.. الصبر يا خوي.. الله يمهل ولا يهمل.

قام الحاج بوداليا متعثرا وربط الكيس الأسود بأحد أغصان ” الداليا ” علامة الحزن والحداد والعصيان المدني ورفضا لقتل الأبرياء.

الحاج بوداليا: الله يصبّرنا.. الله يصبرك يا حاجه صالحه.. خذوا منك محمد.. أأأه يا اوخيي كيف نقدر انقول لامه.. منك لله يا ظالم.. يا قاتل الروح وين اتروح

أعتكف الحاج مصباح الفزاني المشهور بأبوداليا ببيته بعد سماعه لخبر غدر الثورة بأبنه محمد ورفاقه الأبرياء في سجن بوسليم. وقام الحاج خليفة بالواجب وساعد صديقه بوداليا في بيع وتسويق بضائعه، كما أشرف على تسيير أمور المحل خلال فترة غياب الحاج بوداليا عن السوق.

في مساء احد الايام، وبينما كان الحاج خليفة يستعد لقفل محله ومحل الحاج بوداليا بمساعدة ابنه صلاح ومساعدهم بلقاسم، دخل المحل شخصان يبحثان عن الحاج مصباح الفزاني “بوداليا”.

الحاج خليفة: بوداليا مش موجود.. مستاجع شويه

مخبر: مش هادا دكانه والا لا؟ وانت الحاج خليفة صاحب الحاج بوداليا والا لا؟

الحاج خليفة: اينعم.. ومن اللى ينشد؟

مخبر: احنا يا سي الحاج من أمن الجماهيرية وعارفين انك صاحب الحاج بوداليا وفيه بيناتكم ثقة ومعرفه قديمه

الحاج خليفة: يا ستار استر.. شني فيه ثاني؟

المخبر: ما فيه الا الخير انشا الله.. “غير وسّع بالك”.. انتم الباين عليكم اصحاب هلبه والراجل سايبلك المحل وقاعد انت آهو تساعد فيه ما شا الله عليك.. وهذا هو السبب اللى نبّوك تجي معانا بيش تساعدنا في هالموضوع اللى جايين على خاطره.

شك الحاج خليفة في نوايا المتكلم، فجلس منتظرا سماع ما احضره المخبر معه من مواضيع. جذب المخبر صندوقا فارغا لمشروب “مراده” وجلس عليه بجوار الحاج خليفة.

المخبر: محمد ولد الحاج مصباح الفزاني، تعرفه؟

الحاج خليفة: الله يرحمه.. اينعم نعرفه والمرحوم محمد كان زي ولدي.

المخبر: لا يا حاج لا. محمد مش مرحوم.. محمد ولد الحاج بوداليا ما ماتش! وهذا هو الموضوع اللى جايين على خاطره والخبر الكويس اللى توّا عاد نبّو عليه زرده كبيرة

الحاج خليفة: محمد حي؟ محمد ولد الحاج مصباح الفزاني بوداليا قاعد حي وما ماتش في الحبس؟ بسم الله الرحمن الرحيم.. انتم من انتم؟ تكيف؟ راني مش فاهم حاجه

المخبر: ايوا يا سي الحاج ايوا.. محمد ولد بوداليا حي.. ونبّوك تمشي معانا للحاج بوداليا بيش نسلموله ولده وبيش يكمّل تربيته.. الحكاية وما فيها يا سي الحاج ان الشخص اللى مات واحد اسمه محمد مفتاح الفرجاني.. والجماعة اللى بلّغو الحاج بوداليا من كم اسبوع فات ان ولده محمد مات، هالجماعة يا سيدي لخبطو في الاسماء ما بين محمد مصباح الفزاني اللى هو ولد الحاج بوداليا وقاعد حي وما بين واحد ثاني اسمه محمد مفتاح الفرجاني.. تشابه في الاسماء يعني.. وبس.. فهمتني توّا؟

كاد الحاج خليفة أن يقع من فوق الكرسي. مد يده الى زجاجة للماء بجواره وشرب منها القليل، لعل تلك الجرعة تساعده في بلع الخبر الذى سمعه لتوه.

الحاج خليفة: يعني اللى توفي هو محمد ولد الحاج مفتاح الفرجاني مش محمد ولد الحاج مصباح الفزاني؟

المخبر: صح! هوينك عاد فهمتني وفهمت الحكاية ياحاج

الحاج خليفة: حتى محمد ولد مفتاح الفرجاني من جيهتنا ونعرفه ونعرف عايلته كويس.. صار هو اللى مشى في الدهومه.. هو اللى ضاع فيها.. لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.. انا لله وانا اليه راجعون.. دكان بوه قريب من هنا.. كلامكم مزبوط يا جماعه؟

المخبر: محمد مصباح الفزاني ولد الحاج بوداليا حي وموجود في السيارة معانا ونبّوك تمشي معانا بيش نسلّموه لبوه وبيش يوقعلنا على تعهد انه يربي ولده كويس ونبّوك انت تكون الشاهد.. وزي ما تعرف يا حاج الشهادة من الدين

الحاج خليفة: أي دين؟ استغفر الله العظيم.. محمد ولد الحاج بوداليا معاكم تّوا في السيارة؟ وشني حاله؟ لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.. متأكدين يا جماعه؟

المخبر: متأكدين ونص.. هيا بالك نوض معانا بيش نفرّحو عيلة بوداليا

مقالات ذات علاقة

الكلب الراكض على حافة الطريق

أحمد يوسف عقيلة

ثلاثة قصص قصيرة جدًا

علي مصطفى المصراتي

استرداد لحظة…

أحمد يوسف عقيلة

اترك تعليق