الروائيتان: زهور كرام، أحلام مستغانمي.
طيوب عربية

الجسد في ‘جسد ومدينة’ و’ذاكرة الجسد’

د. أحمد بوغربي

الروائيتان: زهور كرام، أحلام مستغانمي.
الروائيتان: زهور كرام، أحلام مستغانمي.

• تمهيد:

يذهب الكثير من الدارسين إلى أن خطاب الجسد بالرواية النسائية ينادي “بجسد حر لا ينصاع لحدود، سيد المكان والزمان، جسد ينحو صوب الخلود استنادا إلى خصائصه الذاتية.

ومرد ذلك عندهم، أن المرأة عانت ولتاريخ طويل من معاناة طالت جسدها وفرضت عليه قيودا عدة تحد من انطلاقه وسليقيته، ومن ثم، سيكون طرحها للجسد من داخل المناداة بجسد مكتف بذاته، ومعزول عن العالم، أو في مأمن من تأثيره، بمعنى، أنها ستنطلق من منطلق رد الفعل الذي سيدفعها حتما إلى السقوط في الأطروحة المناقضة التي تريد تحرير الجسد من خلال إلقائه في أتون اللذة.

ولأن “الجسد” يحضر في رواية “جسد ومدينة” “ورواية” ذاكرة الجسد” تيمة” أساسية، وجوهرية، بداية من حضوره مكونا أساسيا بالعنوان، سنعمد إلى تلمس طبيعة هذا الحضور، وزاوية النظر التي ينظر من خلالها النصين إلى هذه التيمة.

* قراءة في العنوان :

“جسد ومدينة”

إن حرف “الواو” الذي يفصل بين “الجسد” و”المدينة” بالعنوان، ليس واوا للتراكم، أو الزيادة، أو العطف، وإنما هو “واو اشتباكي، علائقي، يحيل إلى هذا التوحد بين الجسد (كجسد خاص)، وبين المدينة (كجسد كلي).

هذا، وتفصح التركيبة النحوية للعنوان: “جسد ومدينة”، حيث الجسد يحضر نكرة (غير محدد) كما تحضر المدينة، على تعددية الجسد بتعدد أشكال الوجود.

“ذاكرة الجسد””

أما بالنسبة للعنوان: “ذاكرة الجسد”، فهو يعطي الانطباع منذ البدء بأن الفضاء الأساسي في هذه الرواية هو فضاء الجسد، أو بالأحرى إمتدادات هذا الفضاء الضائع، لكنه المستعاد في نفس الوقت عن طريق الذاكرة.

وبحضور “الجسد” بالعنوان مضاف إلى الذاكرة، تكون الرواية قد خرجت بالجسد من حيز الجسد: الموضوع، والمنفعل، إلى حيز الجسد: المفكر، والفاعل.

ترصد الروايتان إذن منذ البداية، إطار الاشتغال في شكل حضور الجسد، واتخاذه بعد المكان والإنسان معا، والمبدعة وهي تكشف عن هذا الفهم الفلسفي العميق لهذا التيمة “الجسد”، فإنها بذلك تطرحها مجالا قابلا للمساءلة، والقراءة.

1 – سؤال الجسد :

انطلاقا من مقاربتنا لعنواني الروايتين، تبين لنا أن المبدعة، لا تطرح سؤال “الجسد” باعتباره تمظهرا فيزيولوجيا، أو تيمة موضوعاتية لتشكل مادة الخطاب فقط، وإنما باعتباره امتدادا للوجود وتمظهرا للكينونة، ومن ثم، فهو يحضر رؤية للذات والعالم.

إن ما يعضد هذا الطرح، هو التداخل الذي نطالعه بالروايتين، بين الجسد، وبين الآخر/ الخارج عنه، والمتصل به في عملية احتواء جدلية تفصح عن العلاقة المندمجة بين الذات وبين الآخر كجسد امتداد واحتواء وفعل، وهو ما نستشفه من الأمثلة التالية :

“المكان يسكننا نحن … والمدينة بكاملها … دون أن نجزئها… نار تغلي بداخلنا …” (جسد ومدينة ص24).

“عدنا إلى بيوتنا، بحثنا عنها في أجسادنا، فوجدناها آثارا موشومة بين ضلوعنا” (جسد ومدينة ص 34).

“أكتب إليك من مدينة ما زالت تشبهك، وأصبحت أشبهها، ما زالت الطيور تعبر هذه الجسور على عجل وأنا أصبحت جسرا آخر معلقا” (ذاكرة الجسد ص100).

“يوم دخلت هذه القاعة، دخلت قسنطينة معك، دخلت في طلتك… في مشيتك… في لهجتك… وفي سوار كنت تلبسينه” (ذاكرة الجسد ص 113)

إن سبر علاقة الذات بالعالم – كما يبدو – من خلال حضور الجسد، هو ما سيؤدي إلى قياس العالم بالجسد الإنساني، بحيث إنه إذا كان “الدال” “جسد” علامة لغوية دالة دلالة معبرة عن جوهر الكائن الإنساني بما هو وجود في العالم، فإن اللغة تعبر عن هذا الجوهر من خلال استعاراتها التي تنقل بها العالم وأشياءه المختلفة عن الكائن الإنساني، فتجسدها، أي تعطيها، سمة الجوهر الإنساني، وهو ما يفسر كثرة الاستعارات والصور الناتجة عن فكرة التجسيد/ (الأنسنة) كما نعاين من خلال الأمثلة التالية :

“كان جسدها ممشوقا، وجسد المدينة مبعثرا ومشوها لكنهم أحاطوه بسور يخفي سر التآكل …” (جسد ومدينة ص 25).

“المدينة العريضة الكبيرة تأكل ذاتها …تشرب عرقها … تبتلع آهاتها وتمضي تجر حزنها الملفوف بالغضب: (جسد ومدنية ص 25).

“أريد أن أعود إلى تلك المدينة الجالسة فوق صخرة وكأني أفتحها من جديد، كما فتح طارق بن زياد ذلك الجبل، ومنحه إسمه …” (ذاكرة الجسد ص 402).

“شعرت أن قسنطينة أخذت فجأة ملامحه، وأنها أخيرا جاءت ترحب بي” (ذاكرة الجسد ص 281).

إن المبدعة وهي تقيس العالم بالجسد الإنساني، فإنها تعيد بذلك بناء أنطولوجيا تتأسس على إدراك الوجود في بعده الجسد، أي اعتبار الجسد بؤرة مفتوحة لبناء علاقة/ علاقات ممتدة مع أشكال الوجود من داخل التعدد كسمة لهذا الوجود.

لا تقوم هذه العلاقة على فكرة التشييئ التي تمنح العلاقة صلابة قائمة على أساس يعلي من مفارقة الأنا وتعاليه، بل تقوم أساسا على فكرة التجاذب، حيث تخضع الذات والأشياء لمنطق تجاذبي متداخل، يتجه باتجاه انصهار الذات والوجود، بحيث ينتفي الانشطار والتخارج، لتتأسس حركة التداخل والهوية الموحدة. حتى “لا يمكن إلغاء الفعل من مسافة، ثمة شيء يجتذب شيئا آخر… لكي تتمكن إرادة القوة من أن تنجلي تحتاج إلى إدراك الأشياء التي تراها”.

“وكان جسر (سيدي راشد) يبدو منهمكا في حركة دائبة … مأخوذا بهمومه اليومية وبحماس نهايات الأسبوع… قررت بدوري ألا أجامله … فأغلقت النافذة في وجهه وجهي … ورددت النافذة” (ذاكرة الجسد ص 336).

“أصير أنا المدينة حين أصبح حكايتها” (جسد ومدينة ص 87).

إن إرادة التجاسد هذه، والتي تنبني على مبدأ الحلول، ليس كانجذاب قوة مفارقة في جسد كما هو الشأن عند متصوفة الحلول، وإنما على العكس من ذلك، فهو قائم على أساس الإجلاء، والإندماج، بحيث تصبح الذات سمة لوجود يتحول إلى صيرورة قوى متجاذبة حية تعطي للجسد هويته :

“متعب أنا … كجسور قسنطينية… معلق أنا مثلها بين صخرتين وبين رصيفين” (ذاكرة الجسد ص377).

“اختزلت فيك كل الفضاءات … والأزمنة … صرت كل المدن العربية التي يتكثف وحل مستنقعاتها…” (جسد ومدينة ص 48).

“ربما لم تكوني أنت، ولكن هكذا أراك، فيك شيء من تعاريج هذه المدينة، من استدارة جسورها من شموخها، ومن مخاطرها، من مغارات وديناها…” (ذاكرة الجسد ص 167).

واضح إذن، أن المبدعة تطرح سؤال الجسد من خلال عملية استكناه لعلاقته بالعالم، ومن ثم، فهذا الآخر الذي يشير إليه كاف المخاطب في الأمثلة السابقة ليس سوى الجسد نفسه، وهو ما يحيل إلى مرجعية حداثية مكنت المبدعة من إعادة طرح سؤال الجسد، ليس رغبة في اجترار مفاهيم فلسفية معينة، وإنما لخلخلة خطاب عربي يقدم صورة للجسد انطلاقا من الذاكرة العربية بوصفه رغبة للآخر، وبوصفه مهمشا ومحتقرا.

وهنا تكمن مشروعية التجربة الحداثية التي تعد الجسد “رمزا لتحول عميق في منزلة الإنسان الذي يرغب في إرساء مصالحة مع نفسه وينمي علاقات حميمية مع فردانيته”.

وانطلاقا من هذه الرؤية، ينهض سؤال المبدعة، ليستفز ذاكرة الخطاب العربي ورؤيتها المتيمة للجسد عبر تاريخ ممتد من القهر، والكبت.

“جائع أنا إليك … عمر من الظمأ والانتظار عمر من العقد والحواجز والتناقضات، عمر من الرغبة، ومن الخجل، من القيم الموروثة، ومن الرغبات المكبوتة عمر من الارتباك والنفاق” (ذاكرة الجسد ص 173).

” تراجع النموذج والمستنقع، وانبثق بوح جرف خجل أثمره تاريخ القرية النائية” (جسد ومدينة ص 86-87).

هكذا إذن، لم يكن طرح المبدعة لسؤال الجسد نابعا من إدراكها لذاتها كأنثى فقط، وإنما من إدراك هذه العلاقة بالكون، على اعتبار الجسد امتدادا للوجود وتمظهرا فاعلا للكينونة، وأداة لسبر علاقة الذات بالعالم وأشيائه من داخل الوعي بأن: “الوجود واحد لا نحتاج فيه إلى نظامين، ولذا فالإنسان وحدة لا نفصل فيه بين الأشكال الذهنية والأشكال الجسدية والروح معا دون انفصام في كينونته”.

ويعود هذا الموقف من الجسد إلى طبيعة المعرفة الصوفية القائمة على التعالق بين الأواني والمعاني، وهي تحاول إيجاد نوع من المناسبة بين كثافة الجسد ولطافة الروح، وفي هذا الصدد فقد سجل الباحث “فريد الزاهي” في “الجسد والصورة والمقدس في الإسلام” أن: “المادي البيولوجي يشكل الأساس المرئي، وأن الثقافي الرمزي يشكل الانفتاح العمودي للجسد نحو ممكنات الوجود العميقة، وأن القيمي المعرفي يمثل المستوى الضروري الذي في إطاره وبالمقارنة معه يبحث الجسد عن تميزه الشخصي””.

2 – قراءة الجسد

لقد تبين لنا من خلال العنصر السابق، أن المبدعة، توظف الجسد منهجا للتواصل مع العالم باعتباره التأويل المناسب لجسد فسيح كلي، هو جسد الوجود، الأمر الذي يفيد بأن المبدعة لا ترى الجسد في معزل عن التأثيرات، أو في مأمن منها، بل “جسد” دال، ومفتوح على العديد من التأثيرات التي لها ارتباط بحيثيات وجوده، مما يطرح إمكانية قراءته والبحث فيه.

من هذا المنطلق، يرد “الجسد” داخل سياق البحث بالنصين، معادلا للمدينة (الفضاء)، ولأن هذه الأخيرة، فضاء عتبة، مسكونا بالقلق والاغتراب، وطرح الأسئلة المصيرية من قبل شخوص تعيش البين – بين، فقد جاء “الجسد” يحمل سمات هذا الفضاء وملامحه، وهو لذلك ينتظم دلاليا مع خاصيتين مهيمنتين على النصين، هما خاصيتا: الحزن والموت، إنه جسد منذور لهما.

منذور للحزن في بعده الإيديولوجي، والروحي، والفلسفي:

“كل امرئ بات يحمل بذرة القلق” (جسد ومدينة ص 20).

“كان حزينا، حزينا، جدا والحزن يتقطر من جسده” (جسد ومدينة ص 37).

“يسألني حسان لماذا أنت حزين هذا الصباح؟ أحاول ألا أسأله ولماذا هو سعيد هذا اليوم” (ذاكرة الجسد ص 322).

“تراني أبحث عن بقايا جد ما، كان اسمه “أحمد” … يقال إنه كان وسيما وذا مال وعلم كبير، وأنه رمى يوما كل شيء من هنا… ليترك حزنه وجرحه إرثا لتلك العائلة” (ذاكرة الجسد ص 294).

ومنذور للموت في مختلف ألوانه وتمظهراته :

– موت الذات:

“سيدتي إنني أحمل إليك خبرا مفجعا، لقد انتحر الأستاذ إبراهيم” (جسد ومدينة ص 75).

“واحد الشابة كانت معنا في المصنع، ماتت وهي صغيرة” (جسد ومدينة ص 71).

“أذكر خبرا صغيرا انفرد بي وقتها، وغطى على بقية الأخبار، فقد مات الشاعر اللبناني “خليل حاوي” منتحرا بطلقات نارية…” (ذاكرة الجسد ص245).

“كيف مات حسان؟ هل مهم السؤال، وموته كان أحمق كحياته، ساذجا كأحلامه أقرأ كل الجرائد لأفهم كيف مات أخي، بين الحلم والحلم … بين الوهم والوهم…” (ذاكرة الجسد ص 389).

– موت الأوطان:

“اليوم بعد كل هذا العمر، بعد أكثر من صدمة وأكثر من جرح، أدري … أن هناك يتم الأوطان أيضا” (ذاكرة الجسد ص 289).

“تمشي المدينة كل يوم جنازتها” (جسد ومدينة ص 72).

– موت المثل:

“لقد مات فيه الرجل الآخر… في هذه اللحظة لا شيء يعنيه سوى امتلاك لوحة لي… لأسباب لا علاقة لها غالبا بالفن، وإنما بعقلية جديدة للنهب الفني أيضا …” (ذاكرة الجسد ص 83).

“كل شيء يساوي حقيقة واحدة: الحب، النظافة، القذارة، التنظيم” (جسد ومدينة ص 40).

هكذا، يصبح الجسد، جسدا متخيلا تتبدى من خلاله وعبره تحولات المجتمع، ومن هذا المنطلق، تعيد المبدعة إنتاج خطاب الجسد انطلاقا من “جوهره ككينونة إشكالية مهووسة بالسؤال والقلق، والعنف، واللذة، والغربة، والشك، والأنطولوجيا”.

“إنه السؤال الذي يبقى معلقا كالجسر لوحة بعد أخرى… لأن أي شيء معلق يحمل موته معه” (ذاكرة الجسد ص 207).

“هل يذهب عند الطبيب ليصف له حالته ويمنحه مسكنات النار، لكنه يعرف رغبة النار وسر الاشتعال … تحدثه نفسه عن ضرورة امتهان السؤال” (جسد ومدينة ص 17).

“المدينة تحكي ذاكرتها فوق جسدي … تغرس المدينة أقدامها بعنف فوق جسدي … وجسدي يتلذذ بالانغراس” (جسد ومدينة ص 89)

“فهل هذا هو الوطن؟ قسنطينة كيف أنت يا اميمة… واشك؟… موجعة تلك الغربة … موجعة هذه العودة…” (ذاكرة الجسد ص 284).

“والآن، الآن أشعر بالغربة في جسدي، في لغتي، في مدينتي، في جسدي، مأساتنا أننا غرباء في مكان انتمائنا …” (جسد ومدينة ص 89).

يحضر الجسد إذن، باعتباره علامة تبرهن عن وجودنا في الحياة، ويشكل في نفس الوقت، دائرة ترسم تصورات وملامح كل ما يقرؤ فينا، وبهذا، تؤكد المبدعة فكرة أن “الجسد كان دائما – ولا يزال – واجهة تسمها مختلف التحولات الاجتماعية، وصحيفة ينعكس عليها نمط علاقة الأفراد فيما بينهم، ورؤيتهم للعالم والأشياء.

“جسده يفضحه، يعريه، من عينيه تقرأ آخر أسرار الاجتماع الليلي…” (جسد ومدينة ص 37).

“كان جسدي ينتصب ذاكرة أمامه … ولكنه لم يقرأني” (ذاكرة الجسد ص 404).

ومن ثم، يصبح الجسد هو ما يشدنا إلى بعضنا البعض عن طريق التواصل اللغوي سواء كان مباشرا أو غير مباشر:

“توقفت مدهوشة أمامي، تفحصت معطفي الرمادي الحزين ووجهي النحيل الشاحب، توقفت عند ذراعي الوحيدة التي تمسك علبة الحلو، وذراع المعطف الأخرى الفارغة التي تختبئ لأول مرة بحياد داخل جيب معطفي، وقبل أن أنطلق بأي كلمة اغرورقت عيناها بالدموع … لقد قال لها منظري أكثر مما تتحمله امرأة في سنها فرحت أغير مجرى الحديث” (ذاكرة الجسد ص 80).

“حمدا لله على رجوعك” قال إبراهيم وسعيد يقحمه الصمت بعنف، فهمت ما حدث وما جرى، ولذا، لم أرد أن أوقظ ما عرفه الجسد” (جسد ومدينة ص 37).

هكذا، ندرك أن الجسد في الروايتين “موضوعا علاماتي ورموزي، ودلالاتي، بل أكثر من ذلك أنه يفصح عن غنى ألسني واضح في التعابير الحركية والطقوس المسرحة”، ذلك لأن حضوره في الزمان والمكان، يجعل أية حركة له في المجال، تعبر عن تموضعه في الواقع بالشكل الذي يطرح سلسلة من التأويلات.

“… رفعت يدي الوحيدة لأقرأ الفاتحة على ذلك القبر، بدا لي وقتها ذلك الموقف، وكأنه موقف سريالي، وبدت يدي الوحيدة الممدودة للفاتحة وكأنها تطلب الرحمة بدل أن تعطيها، فتنهدت وأخفيت يدي …” (ذاكرة الجسد ص 330).

“…لم ينتبه أحد وقتها إلى يدي الوحيدة المرفوعة تأييدا… وإعجابا، يومها اكتشفت البعد الآخر لليد الواحدة، فقدر صاحبها أن يكون معارضا، ورافضا، لأنه في جميع الحالات … عاجز عن التصفيق” (ذاكرة الجسد ص 326).

“إنه يتأملها …في رقدتها … في انغراس رأسها في الصدر وركبتها في بطنها … يتأمل شكلها الدائري هم الذين صنعوا هذا الشكل… يهمس شروده، إنه دليل العزلة والغربة …” (جسد ومدينة ص 18).

هكذا إذن، تقرأ الكاتبة الجسد بوصفه محورا، ليس متمركزا حول ذات ضمن دائرة مغلقة، وليس باعتباره موضوعا لنرجسية مرضية، أو مجرد مساحة لصياغة الرمز وافتعال المجاز، وإنما بوصفه بؤرة مفتوحة للتقويم من جهة، ولفتح علاقات ممتدة مع أشكال الوجود من جهة أخرى، كأنطولوجيا كاملة، ومطلقة، هي عمق الوجود، وعمق الهوية، فالجسد من الناحية الوجودية “هو طريقتنا في المشاركة في العالم إنه في وقت واحد: “البؤرة التي ننظر منها إلى العالم وننظمه، وفقا لاهتماماتنا ومصالحنا، وهو كذلك المركز الذي ينعكس عليه العالم مرة أخرى إن صح التعبير، بحيث إن كلا منا يكون نوعا من العالم الصغير أعني العالم في صورة مصغرة”.

تنظر المبدعة إلى الجسد إذن من داخل الإدراك لأبعاده المتعددة كموضوع للتفكير، ومجالا للمساءلة، والقراءة لسبر علاقة الذات بالعالم، وهو ما يعبر عن صلب تصور حداثي يخلخل خطابا عربيا بات مكرورا، يقدم الجسد استنادا إلى أنساق تصورية، ترتبط إلى هذا الحد أو ذاك، إما بتصورات طهرانية – روحانية – تقوم على التحريم والإكراه، أو بمنازع تحررية مغرقة في الآنية والتجريد، مما يجعل الجسد في كلا الحالتين مهمشا ومحتقرا.

باحث من المغرب

____________________________

نشر بموقع ميديل إيست أونلاين.

مقالات ذات علاقة

أن تعشق الحياة

مهند سليمان

عيوب ينبغي أن لا تُذكر

زيد الطهراوي (الأردن)

نسوة في المدينة*

المشرف العام

اترك تعليق