دراسات

الترجمة الأدبية عند المرحوم خليفة التليسي. مجموعة “ليلة عيد الميلاد” نموذجاً

تعتبر الترجمة من الأجناس الأدبية التي تساهم في نقل المعارف والعلوم والآداب والثقافات بين الأمم. كما أنها تلعب دوراً كبيراً في تقريب وجهات النظر بين الشعوب من خلال التعريف بالأيديولوجيات الفكرية والمواقف السياسية وتوضيح الآراء والقرارات وأبعادها المختلفة ونزع فتيل النزاعات والتوترات.

وقد لعبت الترجمة دوراً مهماً في مشروع النهضة العربية الحديثة وشكلت ظاهرة فريدة في إثراء الفكر العربي والإمتداد الإسلامي عبر التواصل مع الأمم والشعوب الأخرى من خلال التراجم المتعددة لآدابها وثقافاتها وفنونها والإنفتاح عليها والاقتباس منها أحياناً بما يساند ويقوي الدور والهدف العربي الإسلامي.

وفي هذا الجانب يقول الدكتور خليفة التليسي في حوار أجري معه (… إن الترجمة في النهضة العربية قام بها جيل توفرت له ميزة لم تكن متوفرة للأجيال التي سبقته، وهي القدرة على الوساطة بين لغتين، القدرة على الانتقال إلى لغة أخرى والنقل عنها، وكانت هذه القدرة على الوساطة بين لغتين محدودة. يعني أن الذين أتيح لهم الاتصال بالإدارات الأجنبية هم فئة محدودة أرادت أن تقوم بدور هذه الوساطة لكن عندما اتسع التعليم أصبحت هناك إمكانية كبيرة جداً في قراءة النص في لغته الأصلية. هناك جيل عربي واسع يقرأ الإبداع في الإنجليزية والفرنسية إلى درجة أن الرغبة تعطلت لديهم في نقل هذا العمل، وعلى الرغم من أن هذه الظاهرة متحققة في آداب أخرى إلا أن وظيفة المترجم لم تتعطل لديهم وما يكاد يظهر النص في الإنجليزية حتى ينتقل إلى الفرنسية رغم وجود من يقرأ في الإنجليزية مباشرة). (1)

وقد برع الدكتور خليفة محمد التليسي في مجال الترجمة بنفس القدر الذي نبغ فيه في مجال التأليف، وسجل من خلال ترجماته التي تناولت الأعمال الأدبية والتاريخية إضافات ثرية للمكتبة العربية، حيث تنوعت وتعددت أعماله المترجمة فاقت ستة عشراً عنواناً، نورد بعضها كالتالي:

(أ) الأعمال التاريخية:

1- طرابلس تحت حكم الإسبان وفرسان مالطا، تأيف ايتوري روسي، طرابلس 1969

2- طرابلس من 1510 إلى 1850، تأليف برانيا، طرابلس 1969

3- الرحالة والكشف الجغرافي في ليبيا، تأليف اتيليو موري، طرابلس 1971

4- ليبيا أثناء العهد العثماني الثاني، تأليف كورو، بيروت 1971

5- ليبيا منذ الفتح العربي حتى سنة 1911، تأليف ايتوري روسي، بيروت 1974

6- سكان ليبيا (الجزء الخاص بطرابلس)، تأليف هنريكو اغسطيني، بيروت 1975

7- مذكرات جيوليتي، رئيس وزراء ايطليا أثناء احتلال ليبيا، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والاعلان، طرابلس، 1976

8- سكان ليبيا (الجزء الخاص ببرقة)، تأليف هنريكو اغسطيني، الدار العربية للكتاب، طرابلس-تونس، 1990

9- برقة الخضراء، تأليف ايتليو تروتزي، الدار العربية للكتاب، طرابلس – تونس، 1991

10- البحر المتوسط… حضاراته وصراعاته، تأليف ارنل برادرفورد، المؤسسة العامة للثقافة، طرابلس، 2008

(ب) الأعمال الأدبية:

1- الفنان والتمثال (مسرحية)، تأليف لويجي بيراندللو، دار الكتاب الليبي، طرابلس، 1967

2- قصص إيطالية (مختارات من قصص لويجي بيراندوللو) دار الثقافة، بيروت، 1967

3- ليلة عيد الميلاد (مجموعة قصصية مترجمة عن الإيطالية)، دار الثقافة، بيروت، 1968

4- هكذا غنى طاغور، ترجمة لبعض دواووين الشاعر الهندي طاغور، الدار العربية للكتاب، 1990

5- قصائد من نيرودا (مجموعة من قصائد شاعر تشيلي نيرودا)، الدار العربية للكتاب، 1991

6- الأعمال الكاملة للشاعر الأسباني لوركا مع دراسات نقدية حول شعره، الدار العربية للكتاب، 1991

ويؤكد الدكتور التليسي أن ترجماته المتعددة والمتنوعة هي تعبير عن ذاته وجزء من تكوينه الفكري وتذوقه الأدبي (… إن ترجماتي ينبغي أن ينظر إليها باعتبارها شيئاً من التعبير عن نفسي كثيراً، إن هذه الترجمة تدخل في باب التعبير عن الذات. ودائماً أقول إن الترجمة الناجحة ]هي[ التي تبحث عن إبداعها عند الآخرين… أنا لم أترجم احترافاً – خاصة في المجال الأدبي – فقد بدأتُ الترجمة في سن مبكرة جداً. وإن ما نشر لي في سنة 67م، وسنة 1968م هو منشور في (مجلة طرابلس الغرب) في سنتي 54-1955م، يعني مجموعة قصص “بيراندوللو” – مترجمة سنوات (54/55/56م)- هذه الترجمات في جانبها الشعري أو جانبها القصصي هي تعبير غير مباشر عني، تصور شيئاً من ذاتي. وكما قلت فأنا لا أقدم على الترجمة إلا إذا وجدتُ إبداعي عند الآخرين، فتتحول الترجمة عندي إلى عملية إبداعية. ولكن هذا النمط من الترجمة خطير جداً. وخطورته أنه يمتص عواطفك ويوظفها لصالح الآخرين. من هذه الزاوية يمكن أن يكون تضحية بالذات. وبعد هذه التجربة القاسية أنصح أن تكون الترجمة مرحلة من مراحل العمر. وإلا صار الإنسان بموجبها مترجماً وكفى. ينبغي أن تكون مرحلة من مراحل حياتك تساعدك على اكتشاف ذاتك أو تتعلم منها الطرق والأساليب، أو تكتفي بالصمت مع أستاذ من الأساتذة الذين تعشق رؤياهم، ونظرتهم إلى الحياة….] ويواصل [.. الترجمة – هنا – ليست حرفية الصلة بينك وبين الأثر. ليست صلة باهتة، ولا صلة موضوعية خالية من الارتباط الذاتي. وأعتقد أن من قرأوا ترجماتي – قصصية أو شعرية – قد حددوا خصائص هذه الترجمة وصفاتها…). (2)

وقد تمكن الدكتور خليفة التليسي من النبوغ في مجال الترجمة التأريخية التوثيقية والأدبية الإبداعية بفضل إمكانياته اللغوية الباهرة المتمثلة في إتقانه التام للغة الإيطالية بالدرجة الأولى والتي يقول عنها (… النقطة المهمة جداً التي أحاول دائماً أن أشير إليها أن اللغة الإيطالية لم تكن فقط نافذة على الأدب الإيطالي، بل لعلني قرأتُ فيها من الآداب العالمية ومن الكتب المترجمة إليها ربما أكثر مما قرأتُ لبعض الكتاب الإيطاليين، مثلاً “موبسان” أنا قرأته بالإيطالية في أعماله الكاملة “وتشيخوف” قرأته في أعماله الكاملة المسرحية والقصصية… ويكفي أن أشير إلى أنني قرأت -إذا لم يكن الأعمال فهي أقرب ما تكون للأعمال الكاملة- “لتشيخوف/موبسان/برانداللو/مورافيا” كانت فترة ولع، وفترة قرأة جنونية. أريد أن أؤكد أن اللغة الإيطالية لم تكن لي نافذة على الأدب الإيطالي ]فقط [إنما كانت نافذة على ما نقل إليه من آداب أخرى). (3)

وليست اللغة الإيطالية فحسب التي مكنت الدكتور خليفة التليسي من التواصل مع الثقافات الأجنبية العالمية الأخرى بل امتد شغفه حتى اللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية التي يقر أن قدراته في التعامل معهما تمكنه من الاعتماد على نفسه ولا يحتاج إلى مساعدة من أحد (… وأنا الآن وعندما تقتضي الدراسة الرجوع إلى اللغة الإيطالية أو الإنجليزية أو الفرنسية، لا أحتاجُ فيها إلى أحد. فتعاملي مع هذه الحسناوات الثلاث كان تعامل أخذ وليس عطاء. ثم إن هناك قرابة واضحة جداً بين هذه الحسناوات، وهو أن قاموسها الحضاري ومصطلحها العلمي واحد، وصلتي بهذه اللغات كانت رافداً مهماً جداً في تكوني الثقافي….).(4)

ليلة عيد الميلاد:

مجموعة (ليلة عيد الميلاد)(5) التي بين يدي الآن، هي من الأعمال الأدبية التي ترجمها الأديب الراحل الدكتور خليفة محمد التليسي وقام بنقلها من اللغة الإيطالية إلى اللغة العربية، متضمنة ستة وعشرين قصة قصيرة لمجموعة من الأدباء الأوروبيين والآسيويين في كل من إيطاليا وإسبانيا وفرنسا والهند، وقد جاءت في ثلاثمائة وأربعة وثمانين صفحة من الحجم الصغير، وصدرت عن المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان بطرابلس في ليبيا في طبعتها الأولى سنة 1985 كما جاء في الصفحة الرابعة منها، بينما تشير بعض المصادر إلى أن الطبعة الأولى كانت قد صدرت عن دار الثقافة ببيروت سنة 1968 كمجموعة قصص مترجمة عن الإيطالية أو مجموعة قصص من الأدب الإيطالي.

ويلاحظ هنا أن هناك تكراراً في رقم الطبعة واختلافاً في تسمية هذه المجموعة المترجمة. فالطبعة الأولى الصادرة عن دار الثقافة ببيروت تسميها “مجموعة قصصية مترجمة عن الإيطالية”، بينما العنوان الذي تصدر غلاف الطبعة الصادرة عن المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان هو “قصص” بدون أن تحددها أو تطلق عليها صفة الترجمة، كما لم تتضمن الطبعة الأخيرة الصادرة بطرابلس أية توطئة أو توضيح من المترجم أو الناشر لتقديم هذه المجموعة للقاريء وشرح كيف تم إنتقاءها وخصائص اختيارها، أو تبيين الأسس التي اتبعت في ترتيبها والذي ورد على النحو التالي:

وكما يبدو من خلال التسلسل الوارد للقصص ومؤلفيها فإن ترتيبها في المجموعة لم يكن وفقاً لأية أسس أو اعتبارات فنية تتعلق بمواضيع النصوص القصصية أو مراعاة لأهمية القصاصين على الساحة الأدبية، بل أظنه جاء حسب رؤية المترجم وذوقه القصصي في تلك الفترة المبكرة من عمره وحياته الأدبية. وعلى سبيل المثال فقد نالت قصص الكاتب الإيطالي “ألبرتو مورافيا” الحظ الأوفر في هذه المجموعة وبلغت أربعة عشرة قصة، أي أكثر من نصف المجموعة، وقد جاءت غير متسلسلة بالمجموعة حيث تتابعت من القصة الثالثة إلى السادسة (إيصال، عندما تسأم الآلة، هروب، لاشيء) ثم ظهرت (الرؤيا الشاملة، الشيء الجميل) في التسلسل الرابع عشر والخامس عشر، ثم (لو تحولت الكلمات إلى دنانير، الحساب، عادت إلى أمها، رومولو وريمو، الممرضة، ألاعيب الصيف، كاترينا، قصير) بداية من تسلسل الثامنة عشر وحتى الخامسة والعشرين.

والغريب أن العلاقة بين هذا الكاتب الإيطالي والدكتور خليفة التليسي ليست علاقة متينة وقوية حتى يمنحه الحيز الأكبر في مجموعته، ففي حديث للدكتور خليفة التليسي يصف فيه قراءاته المتعددة للأدب الإيطالي وشخصياته ورموزه يضمنه اعترافاً وتحليلاً لكتابات “ألبرتو مورافيا” جاء فيه (… قراءات مختلفة في الأدب الحديث لكن أبرز شخصياتها على الرغم من أنني لا أحبه، قد تستغرب أنا أقرأه لكن لا أحبه، هو “موارفيا”، فيندر أن يكون له عمل لم أقرأه، وقد ترجمت له بعض القصص. و”موارفيا” من أسهل الكتاب الإيطاليين لغة. وليس من الكتاب العسيرين من حيث اللغة. وهو كاتب تشريحي يشرح النموذج بموضوعية قاسية أشد من موضوعية الطبيب، وقد ينطبق عليه ما أسماه بعضهم “الأخلاقي اللأخلاقي”..).(6)

وغرابة هذه المجموعة لا تتوقف عند هذا الحد، بل تستمر لطرح العديد من التساؤلات التي لم يقدم المترجم إجاباتها للقاريء، والتي من بينها مثلاً ما هي مصادر هذه المختارات القصصية في المنشورات الإيطالية وكيف يمكن الرجوع إلى أصولها في اللغة الإيطالية؟ ولماذا اختار أن يستعير عنوان القصة الثامنة بداخلها (ليلة عيد الميلاد)(7) وهي القصة الوحيدة للكاتب الإسباني ميجيل دي بيبيس ليكون عنوان الغلاف الخارجي لكامل المجموعة، وهل أصل هذه القصة كتب باللغة الأسبانية ثم ترجم ونشر بالإيطالية وبعدها ترجم إلى العربية، أم أن اللغة الأم لهذه القصة هي اللغة الأيطالية وليست الإسبانية؟ والقاريء لهذه القصة لا يجد فيها ما يجعلها تتفوق على غيرها من قصص المجموعة، مثل قصة (سبعة أدوار)(8) للكاتب الإيطالي “دينو بوتساتي” التي جاءت في مقدمة نصوص المجموعة، وما تحمله من دلالات إنسانية عميقة لرحلة الحياة والموت عبر مراحل المرض المختلفة، أو قصة “الرسل السبعة”(9) لنفس الكاتب، أو قصة “إيصال” لمورافيا أو غيرها من القصص الجميلة الأخرى؟؟

كما يضمن الدكتور التليسي مجموعته المترجمة قصة هندية بعنوان (أكتب قصة عني)(10) بدون أن يطلعنا على اسم كاتبها الهندي أو مترجمها للغة الإيطالية أو يوضح لنا سبب اختياره لها أو أهميتها الإبداعية وما يمكن أن تضيفه قصة بلا مؤلف لذائقة القاريء العربي! وهذا ينطبق كذلك على قصة “ميكانيكي”(11) التي لا تحمل اسم كاتب إيطالي مؤكد بل على سبيل الظن ينسبها الدكتور التليسي للقاص الإيطالي ميكيلي بريسكو كما جاء في إشارته أسفل النص الوارد بالمجموعة.

ونحن نجد العذر كله للدكتور خليفة التليسي حين نكتشف من خلال حديثه أنه قام بترجمة هذه المجموعة في منتصف الخمسينيات ونشرها في أواخر الستينيات من القرن الماضي، آخذين في الاعتبار المسافة الزمنية الشاسعة جداً بين زمن الترجمة وتواضع إمكانياتها وأدواتها الفنية المختلفة وأغراضها وأدوارها الثقافية، وزمن نشرها ووقت قراءتها التي تبعد عنها بأجيال عديدة تختلف في اللغة والتقدير والتأويل والمراجعة والتدقيق. ولكن تظل مشروعية التساؤل والنقد مقبولة في إطار الاعتناء بهذا العمل والبحث من أجل إثراءه.

أما بالنسبة لي فقد اقتنيت هذه المجموعة بتاريخ 12/7/1986 وقرأتها في حينها ثم عدت إليها مؤخراً بعد وفاة الأديب الكبير الدكتور خليفة محمد التليسي، ولاشك أن قراءتي الحالية تختلف كثيراً عما سجلته عنها من ملاحظات وانطباعات سابقة تظل إيجابية في كلتا القراءتين. ويظل العمل الرائد مميزاً برغم العديد من الأوجه التي يحملها أو تحمل عليه. ولا شك أن الدكتور التليسي حين أنجز هذا العمل في وقته كانت بواعثه إثراء المكتبة العربية والارتقاء بالذائقة الأدبية وهو هدف نبيل لازال متوقداً ومتوهجاً ينبعث من هذا العمل القصصي المترجم وغيره من إبداعات الراحل الآخرى على اختلافها التي تشهد له بعلو كعبه وروعة وغزارة منتوجه الأدبي.

______________________________________

* نشرت هذه الورقة بالملحق الثقافي لصحيفة الجماهيرية، العدد 6060 بتاريخ 22-23/1/1378 و.ر (2010) صفحة 6-7. ونشرت كذلك في “الشمس الثقافي”العدد 29 بتاريخ 25/1/2010، ص 8-9.

هوامش:

(1) الفصول الأربعة، مجلة ثقافية شهرية، السنة الثانية عشر، العدد 66-67-68، السنة 1992، طرابلس، ص 223

(2) المصدر السابق نفسه، ص 195

(3) المصدر السابق نفسه، ص 202

(4) المصدر السابق نفسه، ص 203

(5) ليلة عيد الميلاد، خليفة محمد التليسي، المنشأة العامة للنشر والتوزيع الإعلان، الطبعة الأولى، 1985م، طرابلس، الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية.

(6) المصدر السابق نفسه، ص 121

(7) مصدر سبق ذكره، ص  202

(8) المصدر السابق نفسه، ص 7

(9) المصدر السابق نفسه، ص  39

(10) المصدر السابق نفسه، ص 103

(11) المصدر السابق نفسه، ص 19

مقالات ذات علاقة

بعد ربع قرنِ من الزمن – 1

علي عبدالله

شعرية التناص في ديوان “حنو الضمة سمو الكسرة” للشاعر محمد الفقيه صالح.. دراسة أسلوبية

المشرف العام

قراءة في الرواية الليبية.. من كتاب أكسفورد «تقاليد الرواية العربية» (1/7)

المشرف العام

اترك تعليق