قصة

البشـكليـطة*

إلى حبة القلب، ابنتي مريم …. علمتها قيادة الدراجة في سن الخامسة ….

كانت حمراء، ذات قضبان حديدية تلتحم ببعضها، يعلوها كرسي جلدي أسود مثبت على عنق حديدي، تخرج من جانبيها دواستان مربعتان، وتقف على دولابين مطاطيين، تنتهي بعجلتين صغيرتين ممتدتين على الجانبين. كدت أطير فرحا يوم وصلت “البشكليطة” إلى بيت جدتي حيث أقطن في تلك الفترة بسبب إقامة أسرتي بالخارج. استقبلتها بفرح غامر كذلك الفرح الذي استقبلت به جدتي عروس عمي، وودت في تلك اللحظة أن أمسك بالدف وأنقره وأغني “مرحبا يا لافية… بخشوش العافية” لكن الفرحة في تلك اللحظة عقدت لساني، احتضنتها وانشغلت بحملها إلى الدور الثالث بصعوبة حتى خدشت ساقي في أكثر من موضع.  فرحة لازلت استطعمها اليوم لدرجة أنها غبَّشت ملامح الشخص الذي أهداني، أو أحضر لي، “البشكليطة”، فلا أتذكر سوى أنه كان رجلا، لابد وأن يكون رجلا، ليحضر مثل هذه اللعبة.

كان الحي يتكون من خمس عمارات تعرف آنذاك “بالبالاصات” ذات نسق واحد تتوسطها حديقة دائرية، تنبت فيها شجيرات “الدفلى”، بناه الإيطاليون لكبار الموظفين الحكوميين من الطليان والليبيين، يمتد  أمامها، وعلى بعد النظر، البحر المتوسط بلونه الأزرق الغامق وهدوئه، يربط بينه وبين “البالاصات” نفق كشريان يخيل لساكنيه أن الحي لا يتنفس إلا من خلاله.

يقطن، بالحي إضافة إلى جدتي، عمي وعمتي يمتلكون الشقق العليا من “ثلاث بالاصات”.

 كانت الحديقة التي تتوسط “البالاصات” تعج بالصغار يلعبون كل الألعاب في تلك الدائرة وسط شجيرات “الدفلى” بورودها الوردية اللون ذات الرائحة العطنة بما في ذلك “الوابيس” و”السبيتة “و”السبع رشادات ” و”النقيزة” وحتى “الخميسة” و”الزربوط” و”البطش” واللعبة الراقصة “السلطان جانا..بريلا بريلا”. شيئا فشيئا بدأت في إحدى العطل الصيفية تظهر “بشكليطة” لأبناء الجيران، الواحد تلو الآخر، يدورون بها حول الحديقة الدائرية، يقتصر ركوبها على الصبيان دون الفتيات، كنا نطلب منهم “دجيرة وحدة بس” وتعني الدوران لمرة واحدة حول الحديقة الدائرية ما إن تكتمل الدائرة حتى نجد الصبي يقف وسط الشارع فاتحا مابين ساقيه يمنعنا من المرور لدورة أخرى. تعلم الصبيان ركوب الدراجة بسرعة مذهلة، وتفننوا في الدوران بها بيد واحدة وأحيانا يرفعون أياديهم عن المقود إلى الأعلى أو يرخونها على جوانبهم مكتفين بتحريك أقدامهم محتفظين بتوازنهم، يقفون على كراسي دراجاتهم ثم يقفزون فيسقطون عليه جالسين ككرة البطش وهي تقفز في الهواء بضربة إبهام، كان بعضهم يصرخ ألما إلا أنهم يعيدون الكرة.

غالبا ما كانت “الدورة” المسموح لنا بها غير مكتملة ومبتورة، فما إن تتسلل نشوة الركوب إلى أوصالنا حتى تنقشع فجأة ، وما كانت أياً منا لتحلم بدراجة تدور بها كما يحلو لها دون أن تستجدي… تغير من ملامح وجهها تضيق من عينيها وترفع سبابتها في وجه الصبي استصغارا وتترجى “والنبي دجيرة وحدة بس”، أوتحلم بركوبها واقتيادها إلى أماكن أخرى بدلا من الدوران حول الحديقة. ما إن يقرر الصبي نزع العجلتين الإضافيتين الجانبيتين لدراجته والانطلاق بها بدولابين حتى تستعصي علينا ونتوقف صاغرات عن الاستجداء.

 وبينما لا نتجاوز دائرة الحديقة، كان الصبيان يختفون بدراجاتهم إلى ما خلف العمارات، يصعدون إلى تلة حي “الظهرة” ثم يعودون، يتفاخرون أمامنا بأنهم انزلقوا بدراجاتهم من “ساليطة البراوية”، يصفون بصوت عالٍ وانفعال ظاهر كيف تنطلق دراجاتهم من أعلى “الساليطة” إلى قدم كورنيش البحر، وكيف أن الرياح تعبث بشعورهم الجعدة بشدة حتى تستقيم على رؤوسهم كأسلاك الكهرباء، والنشوة العارمة التي تعتري أجسادهم.

“ساليطه البراوية” عبارة عن منحدر ضيق معبد يبدأ من قلب منطقة “الظهرة” وينتهي عند شارع “الشط” المحاذي للبحر. يبدو لسكان المدينة كأنه شلال يسقط من هضبة عاليه، فيما يبدو لنا نحن الصغار كلسان يتدلى من فم واسع.  تقع على ضفتيه مبان بيضاء، ذات طراز إيطالي، لا تتجاوز ثلاثة طوابق، ، من أهم معالمه  مدرسة ابتدائية، و مبنى الكاتدرائية، بحائطه الصلد العالي، يليه فندق “قصر ليبيا”، أعلى مباني الشارع، بشرفاته البرتقالية الضيقة كعلب الكرتون. وعند مشارف نهايته يتقاطع معه شارع “زاوية الدهماني”، ويفضي في نهايته إلى “شارع الشط” ، يفصله عن البحر الكورنيش. يحكى آنذاك أن حافلة صغيرة فقد سائقها السيطرة عليها وهي تشق منحدر “ساليطة البراوية” فاصطدمت بالكورنيش وسقطت في البحر وبأعجوبة نجا كل ركابها بمن فيهم سائقها، كما يقال أن المنحدر سمي “بالبراوية” لأن كان به مصنع لصناعة نوع من الخمور يسمى “بيرا أويا”.

 كان هدف وأمنية كل صبي يقتني دراجة أن يجتاز اختبار “ساليطة البراوية”، حتى يتفاخر كغيره ممن سبقوه بهبوطه المنحدر بدراجته، ويتذوق ذاك الشعور الذي يحكون أنه يستعصي على الوصف. عدا أنهم يفقدون الإحساس بالدراجة ويدغدغهم شعور بالطيران، فإن دواستي الدراجة تدوران وحدهما بسرعة هائله لدرجة لا تطيق معها قدميهما فتنفضهما بعيدا عنها، وأنه يصدر عنها أزيز يشبه أزيز الطائرة. يحكون عن الهواء ينفخ ملابسهم  فتتحول قمصانهم إلى ما يشبه زي “سوبرمان”، وإلى دفقات الهواء تضرب وجوههم فترتعش لها خدودهم، وإلى طعم البحر يعلق بشفاههم الجافه من الريح. يتحدثون عن الخطر في الانحدار مع “الساليطه” ويتفاخرون بالبطولة لمن ينحدر بدراجته منها، ويتنافسون في الادعاء بالقيام بحركات بهلوانية على ظهرها أثناء تزحلقها نحو الأسفل.

هكذا وصلتني الدراجة الحمراء لأكون أول الفتيات في الحي تقتنيها وتتنزه بها وسط حشد من الصبيان. في البدء لم يسمح لي بذلك حتى أني لم أتخيل ذلك بنفسي وبتلقائية احتضنتها وحملتها وهي ثقيلة إلى الدور الثالث، لأدور بها في الشقة، أدخل من باب وأخرج من آخر. لم يرق الأمر لجدتي، فبعد أن كانت الشقة كلها مرتعا للدوران، للدخول والخروج، بدأت شيئا فشيئا تضيق من المساحة المسموح لي بها “الصالون لا” “وديار النوم لا” ” تحركي في السقيفة زي ما تبي” ثم طال المنع أوقاتا دون أخرى ” بعد المغاريب لا” “في الظهرية لا الناس راقدة” “الصبح بكري لا..الجيران”، وهكذا ضقت ذرعا بها وضاقت ذرعا بي، وأصبحت الدراجة حملا ثقيلا ووبالا في الشقة.

حين اقترح عمي في ذلك اليوم أن أدور بها في الشارع، لم أصدق، لكني كدت أن أقع بها حين وافقت جدتي على الفور، ولولا أن غمزني عمي لصحت فرحا واحتضنتها وقبلت جبينها أو ظهر يدها. أنزل عمي الدراجة أسفل العمارة وسط دهشة أولاد الجيران وأوصاهم بي خيرا فأنا “بنية ومازال ما تعلمتش باهي البشكليطة”، ووقف ينظر إلي وأنا أصارع دواستيها على الأسفلت المليء بالحفر. هز رأسه علامة عدم الرضى واقترح نزع العجلتين الجانبيتين الصغيرتين، قلب الدراجة على ظهرها وبدأ يفكهما الواحدة بعد الأخرى، ثم قلبها على بطنها وأمرني بالركوب، كانت لحظات رهيبة، إذ كيف أركب الدراجة أمام الجميع بدون العجلتين المساندتين وأنا “البنية اللي مازال ما تعلمتش البشكليطة باهي”، امتثلت لأوامره وجلست، كان ممسكا بمقود الدراجة جيدا، أذعنت لتعليماته وحركت قدمي، بينما قام هو بدفع الدراجة بقوة كأنه يطلقها للريح وهو يصرخ “حركي رجليك وشدي توازنك” تداعى مني المقود قليلا إلا أنني ركزت على قدمي وحركتهما بقوة ودون توقف مما أعاد لي التوازن على الدراجة وانطلقت كطائر يحلق بجناحية وينعم بالحرية وسط سماء كلها له.

أمرتني جدتي إذا ما أردت اللعب بالدراجة في الخارج أن أرتدي سروالا تحت الفستان، كما أمرتني ألا أفوت حدود دائرة الحديقة، وبينما استجبت لأمرها الأول، فإنني خرجت من الدائرة مرات محدودة ودخلت الأزقة المجاورة وخرجت منها مسرعة. لم تمض أيام حتى اقتنت فتيات الحي دراجاتهن مثلي، وهكذا عرفنا ولأول مرة طعم أن يطلب الصبي منا “دجيرة وحدة بس”، كما تجرأنا حتى وصلنا إلى أطراف “زاوية الدهماني” حيث دكان ” عمي السكليستي”، و”ساليطة البراوية”، التي لم نجرؤ على تجاوز عتباتها، كنا نقف عند أسفل المنحدر نرنو برؤوسنا فلا نرى إلا لسان الأسفلت ولا نتبين أبعد من ذلك. كانت هذه أبعد نقطة نصلها بدراجاتنا، ننظر إلى أولئك الذين يدعون أنهم تزحلقوا بدراجاتهم على منحدر “البراوية” بإعجاب وخوف من أن يكون مصيرهم كمصير ركاب تلك الحافلة الصغيرة.

يشكل قدوم الشتاء وبداية المدرسة وحلول الظلام مبكرا أسبابا كافية لحمل الدراجة إلى الدور الثالث والتوقف عن الخروج للشارع، إلا أنني مازلت أتذكر ذلك اليوم، وقد خرجت من المدرسة ظهرا ففوجئت بابنة الجيران تقف أمام المدرسة بدراجتها تهز رأسها وتنادي “اركبي وراي” “بننزلوا ساليطة البراوية”، لم أصدق أذني وانتابتني رجفة الخوف، أشرت إلى حقيبتي وقلت بصوت خافت “ما نقدرش… شنطتي رزينة”، أصرت وقالت اركبي هيا!!!

ركبت خلفها وجلست على جانب واحد ودلدلت منه ساقي، اخترقنا حي الظهرة ثم انعطفنا نحو “الساليطة”، وضعت قدمها على الأسفلت وتوقفت لبرهة وكأنها تستعد لسباق، رفعت بمشط قدمها دواسة الدراجة وحطته عليه، قبضت على مقودها جيدا، أحنت ظهرها، ثم انطلقت بدراجتها بقوة كالسهم تتزحلق عجلتاها على الأسفلت المنحدر نحو البحر، خبأت رأسي خلف ظهرها، لكن نسيم البحر أنعشني وأيقظ في أطراف جسدي رعدة الخطر، رفعت رأسي واستمتعت باللحظة، كان شعرنا يتطاير، وقلبي يرتجف، كنت أمسك بأطراف مريلتي السوداء بيد بينما أتشبث بها باليد الأخرى حتى وصلنا إلى أقدام المنحدر، كانت ابنة الجيران متمكنة من دراجتها تمسك بالفرامل من حين لآخر، وفي أثناء هبوط المنحدر تخفف من السرعة بالضغط على الفرامل بشكل متقطع، وحين بلغت السرعة ذروتها رفعت قدميها وتركت دواستي الدراجة تدوران بشكل آلي وبسرعة رهيبة، حتى  انتقل الدوار إلى رأسي وأنا أنظر إليهما وكدت أسقط عن الدراجة، فرفعت رأسي وأغمضت عيني وملأت رئتي بنسيم البحر الذي اندفعنا نحوه، واستمتعت باللحظة.

 حين دخلت على جدتي، رفعت في عينيها وقالت “خيرك وصلتي بكري، وخيره شعرك هايج”. لا أتذكر ما كان ردي أو بالأحرى كذبتي، كل ما هناك أنني مازلت أتذكر هبوط المنحدر وطعم البحر على شفتي، ولسعات الريح على خدي. لم يصدق الصبيان أننا نزلنا المنحدر بالدراجة، وما كان ذلك ليهمني، إذ منذ ذلك اليوم أدركت أننا متمكنات من قيادة الدراجة،  كصبيان الحي تماما.

___________

* كلمة ذات مصدر إيطالي تعني الدراجة     Bicicletta

أوتاوا: غرة رمضان- 11. 8.  2010

مقالات ذات علاقة

نصوص من بلادي

محمد الأصفر

قصص قصيرة جداً

المشرف العام

كريسمس

حسن أبوقباعة المجبري

اترك تعليق