من أعمال التشكيلية سعاد اللبة
قصة

الباب

من أعمال التشكيلية سعاد اللبة
من أعمال التشكيلية سعاد اللبة

في الخامسة من عمري أمام بيتنا ألعبُ مع بنت الجيران بالرمل الرمادي الذي بكيتُ لأبي حتى أعودَ به من البحر بعد قيلولة باذخة هناك، أمام البيت نلهو به، نصنع فوقه منخفضا نسكب فيه الماء من صفيحة جُبنٍ فارغة شبيهة بِعُلب الزيتون التي بالأسواق الآن، لا تحتفظ حبات الرمل الغليظة بالماء، يتسرب، نكرر غباءنا، كنا نلعب حين باغتتنا أمها (تعالي امشي مع أختك)، التي توصيها بشدّها من يدها جيدا وألا تُفلِت الصرّة الصغيرة المُرسَلة لخالتها، نفضتْ صاحبتي يدها من الرمل وأسرعتْ نحو أختها التي شبكتها من يدها في قبضتها بسرعة رهيبة، مسحتُ يدي في ثوبي لألحق بهما، تجري الفتاة تحكُم الصُرّة تحتَ إبطها اليسار، و تتأرجح أختها المعلقة بيدها اليمين خلفها، و ألهث أنا وراءهما بيننا خطوات تسمح لي فقط بمعرفة الاتجاه الذي كان جنوبا عكس البحر باتجاه المدينة، أما القصد فإني أجهله، نطير ولم ينتهِ شارعنا الواسع و الطويل، أرضه صُلبة، شبه مرصوفة بأحجار كبيرة مربعة الشكل ترابية اللون بعض قواطعها معشوشب بالخُضرة، على جانبيه أبواب و أمام كل عدة أبواب أطفال يلعبون أغلبهم برفقة آبائهم الذين يرشفون الشاي مع لعبة السيزا، لم تلتفتا علي ولم يخطر ببالي أن أصيح بهما أن تنتظراني وقد أقصاني الجري حتى عن متابعة تفاصيل الشارع التي أشغف بمعرفتها.

وفي لمحة اختفتا يميناً إلى شارع متفرع من شارعنا، لحظتها فقط التفتّ التفاتة سريعة على بيتنا، التفاتة أخبرتني أني في مرحلة شيقة و هامة و قد تضيع الفرصة، زاد اللهاث والنبض والتصقتْ خصلات شعري القصير جميعها بجبيني، شارع شبيه بشارعنا لكنه أقصر وأقل اتساعا، أبطأتْ الفتاة سرعتها وأجدني أتنفس من فمي و صدري يعلو و يهبط ، اقتربتْ الفتاة من باب بيت كان أيضا على الجانب الأيمن يلتصق يساره باب قصير جدا بالكاد يصل طولي، يجلس في عتبته رجل مسن بثوب أبيض طويل يعلوه الاصفرار، مضيء البشرة نحيف، هادي النظرات خفيف الحاجبين، وشامة بنّية بارزة أعلى حاجبه اليسار، مريح التقاسيم، يثني ركبتيه أمامه يفركهما بيد وبالأخرى يمسك بمروحة سعف قصيرة جميلة الألوان، يضع طاقية بيضاء، حيّته الفتاة بسرعة (خير عمي رجب) دون أن تمدّ يدها التي التقطت الخميسة الحديدية المعلّقة على الباب الكبير تطرقه بقوة، شاردة أنا بين الفتاة وبين عمي “رجب” مرددة مثلها (خير عمي رجب)، شارد هو في المارة لم يُعرني اهتمامه، فُتح الباب ودخلتْ الفتاة وهي تسحب اختها بقوة لأبقى هنيهة سارحة في عمي “رجب” وبابه الغريب، قبل أن أدلفُ وراءَهما إلى بيت خالتهما لأجد يميني أيضا درجا ملاصقا للباب من الداخل ربما يؤدي لغرفة بالسطح، كنت أشيّع عيني معه عندما دفعتني الفتاة خارجاً (استني قدام الباب)، لم تنفعني نظرة شفقة من صديقتي التي لازالتْ معلقة بيد أختها، انتظرتُ خارجا لدقائق وانا أتساءل كيف يتمكن عمي “رجب” من الدخول إلى حجرته الصغيرة منحدرة السقف تجاه الباب الكبير؟ وكيف يمدّ فيها رجليه! وراءه قابلني فيها فراشا من عدة ألحفة، ترى هل ينام وحده؟ أنظرُ إليه و ينظرُ إليّ دون أية كلمة، وضع مروحته جانبا ورفع طاقيته، حرّك ورقة ثبتها في قعرها جيدا، حكّ رأسه وأعاد الطاقية مكانها، أسرعتُ ناولته المروحة، التفتَ، سحبَ من تحت فراشه القماشي حبة حلوى كانت بمثابة جائزة، أعدتُها إليه، فهمَ، فتحها، وضعتُها في فمي دون قَضم تزامنا مع خروج الفتاة، صرختْ في وجهي (هيا!)، وانطلقت تجري بأختها أمامي وأنا ألهث ، لكني مطمئنة إلى طريق العودة، غير مطمئنة للقاء أمي لو علمتْ بانحرافي عن مسار اللعب، خوفاً حرمني من سؤالها عن قصة عمي “رجب” وعن سرّ الباب القصير لغرفته الخرافية كمغارة محاذية لبيت أخت جارتنا ؟، أما سرّ تلك الورقة فذاك ما يؤرقني حتى اليوم.

بعد شهر طرقتْ جارتنا باب بيتنا، وكانت أمي في انتظارها إلى زيارة ما، رجوتُ أمي أن تأخذني فها هي صديقتي برفقة أمها، وكانت المفاجأة أننا أمام بيت الخالة، كان باب عمي “رجب” مقفلا ألوانه الزرقاء باهتة وقد بانت الفواصل بين أخشابه، وكان الباب الكبير مفتوحا، وقفتْ أمي أمام الباب القصير وقالتْ بحسرة (ما كأن عمي “رجب” خش وطلع من هالباب)، كفكفتْ جارتنا دمعة، ودخلنا البيتْ، كان عزاء عمي “رجب”، وكان الدرج الصاعد هو سقف غرفته الصغيرة المفتوحة على الشارع ببابها القصير.

بعدها وبأكثر من أربعين عاما كانت أمي تغادرنا من الباب الحقيقي، قبّلتُها بين جفنيها وتذكرتُ كلمتها.. ( ما كأن عمي “رجب” خش وطلعْ مِن هالباب).

كانَ بَاباً مِنْ وَهَم..

مقالات ذات علاقة

خجل

رشاد علوه

ابنـتي وأنـا

عزة المقهور

الواحة

المشرف العام

اترك تعليق