من أعمال الفنان العالمي بابلو بيكاسو.
قصة

اصحاب كريم

 لوحة بيكاسو

يتخذ الطريق الترابي المتفرع من شارع النعاعسة، شارع قديم كان منذ سنين تملأه سواني البرتقال والصفصاف يبتدء مقابلاً لجبانة* الحومة التي يقال أن صحابياً ما دُفنَ في أعلى الهضبة بها، يمتد جذره من السنفاز* العتيق الذي غادرته رائحة الزيت والدفء بعد أن تذاكر الأخوة الأربعة الذين يعملون به أن الزمان لم يعد يسمح لهم بالعيش على ما تدخله الفطائر المقرمشة من مال، الشارع الطويل الاسفلتي القديم الذي ينزل من ساليطة* ليرتفع عند أخرى من دكان عمي الهاشمي عمدة المدينة وينزل مرة أخرى محاذاة للمدرسة العثمانية التي طالتها ذات غفلة نيران الأسى وأحرقت كل ما فيها، هو أيضاً طالته نيران أخرى،  تراه بجرمه العبثي يمشي محاذاة لجدران المنازل علّه يتوخى الشمس ( أو الظل في أحايين أخرى) يحادث رفيقه الدائم، عيناه المصمتتان غائرتان في الفراغ، وصوت جهوري لا يخشى من إظهاره يملأ المكان، تلتحم قدماه بحجارة الظهيرة الساخنة وشيء به يقول ” سيري ببطء يا حياة”.

أحاديثه مشتتة ويبدو أن رفيقه ( أو رفقاءه، إذ تختلف الروايات حول عددهم) مستمتع بالنقاش أو يسليه، هكذا يخيل للناظر، عندما تمر بجانب كريم تشعر بحرارة حديثه وبأنه يستخدم جوارحه كلها فيه، يداه تتحركان في الهواء بحرية وملامح وجهه المتعبة تتغير بتغير حدة الحديث، تراه يشرح له كيف أنّ الله واسع الرحمة وأنّه ينظر بمنظاره الذي يسع الكون كله إلى أجرامنا الترابية ويبتسم لبسمة طفل ويضحك لنكات عباده المؤمنين  ثم يعود ليدير شئون كونه، تراه زيادة في التوضيح يقتنص ذرات الهواء صانعاً منها عالماً غيبياً ثم يرمي بالذرات بعيداً كأنما يطلع سراحها، يمر أحدهم بجانبه متسائلاً  ” مع من يتحدث هذا الرجل؟!” وإن كان لا يعرفه سيخاف لمجرد رؤيته هكذا، وليسلم من أذىً يتوقعه ( لماذا الناس دائماً ما يخافون من الغرباء؟!) يقول بخوف وصوت يطلب الأمن:

–       السلام عليكم!

–       وعليكم السلام.

يرد كريم بطريقة غريبة إذ يرفع رأسه عالياً محدقاً بصاحب الصوت المفاجئ ثم عالياً نحو السماء ويطلق الكلمات ليوضح للمار أن لا خوف ثم يعود لحديثه الاعتيادي مع الرفيق، يقول الأطفال أنّ كريم صديق للجن ويمكنه بعينيه الفارغتين أن يرى عالمهم وهو يخوض معهم أحاديث كهذه ليثبت لهم أن البشر طيبون وأنهم مثلهم يحبون التجمع حول العائلة واللعب والضحك ويتزوجون رغم أن مصاريف الزواج ترهقهم كثيراً، يقولون أيضاً أنه يحتفظ بهم في جنان حوشهم وعليك أن تطرق الباب بأدب حتى لا تزعجهم، كما أن عدد الطرقات يؤثر في سلوكهم، ترى الأطفال يتراكضون عندما يتجرأ أحدهم على طرق باب المنزل متحدياً الكائنات الخفية ويهربون بسرعة البرق حتى أن بعضهم يهرب قبل أن يفتعلوا الجريمة على غير عادتهم في مشاكسة ما تبقى من سكان الأحياء المجاورة، كريم يعشق الحركة، تراه في كل مكان وأكاد أشك أنك تراه أيضاً في كل زمان، نادراً ما تمر من الشارع الترابي ولا ترى كريم ماشياً حتى تظن أنه من تلك الكائنات الخفية ويقول الأطفال أن أصدقاءه الجن ينقلونه من مكان لآخر صحبتهم، وأتساءل في نفسي:

–       تُرى، كيف هم الجن؟ لابد أن كريم يعرف!

ثم أخشاه، وأدعو الله أن لا يسلط أحدهم ليقض مضجعي، أقول:

–       ربما إذا كنتُ صديقه سيتسنى لي رؤية أصحابه ولربما لعبنا معاً وتحادثنا، ولربما أيضاً سيقولون لي لماذا يحبون مشاكسة أطفال آدم؟!

وعلى مقربة منه، أحاول أن أختلس السمع لأحاديثه ويركبني الشعور الذي يضفيه كريم بفوضوية وجوده تحت ظلال الجدران ومتاهات الأزقة الترابية، تقول لي أمي:

–       برا عيت الدعباك!

–       من عيت الدعباك؟

–       اللي ولدهم اكريم، المريض!

ولم أفهم لماذا تشخص الحالة التي يمر بها كريم بالمرض، هل هو مريض حقاً ؟ هل يمكن أن تكون الجن قد لعبت بعقله؟ الكائنات اللعينة! وأخفي كلماتي عن مسامع الخفاء، فإن أخشى ما أخشاه أن يغضبوا، من الذي سيغضب؟ هم! من هم؟! هم…هم! ماذا؟! وبصوت يكاد يأكله الصمت ” الجن التي تصحب كريم!”.

وأرن جرس الباب متصنتاً لما يخفيه خلفه من أهل الخفاء، كان يدور في بالي أنهم يجولون المنزل بطوله وعرضه، ترى جنياً يسقي شجرة الليمون المنتصبة وسط الباحة وترى آخر يشرب الشاي، أنت لا تراهم، ترى هذه الأشياء تتحرك فقط، وترى بعضهم يرقص على أنغام موسيقى ما، هكذا تدور مخيلتي وأنا أتصبب عرقاً وراء الباب الحديدي، ويخرج كريم بجرمه وملامحه المصمتة باسماً في وجهي، أبحث خلفه عن رفيقه، لا أحد، احتار أمامه، أقول له:

–       قتلكم* أمي باش تتفضلوا.

ويفهم من كلامي أن الحديث ليس موجهاً له، يدعوني للدخول، أتردد وأرتبك ويدور في بالي سؤال آخر ” هل سأجدهم متحلقين حول الحصير يتحادثون؟ أم أنّ أحدهم يختبئ في مكان ما ليلهو بي؟”.

–       من الذي سيلهو بك؟

–       هم!

–       من؟!

–       الجن التي تصحب كريم!

*جبانة:مقبرة، سنفاز: محل بيع فطائر السفنز، ساليطة:  منحدر، قتلكم: قالت لكم.

مقالات ذات علاقة

بوذا

سعد الأريل

كبُة الصدأ

إبراهيم بيوض

نَقْشٌ

المشرف العام

اترك تعليق