المقالة

ابتذال الكلمة ووأد المعنى

من أعمال الفنان التشكيلي رضوان الزناتي
من أعمال الفنان التشكيلي رضوان الزناتي

عندما نسيء التعامل مع مفردات اللغة “وبغض النظر عما إذا كان الجهل وراء ذلك أو قصور الفهم، أو حتى سوء الطوية” مثل أن نضعها في غير المواضع المناسبة لها، أو أن نحرّفها “نطقاً أو كتابة” فإن الإساءة لا تقف عند حروف تلك المفردات، بل تطال روحها الذي هو معناها وما وجدت أصلاً لتدل عليه.

وإذا كانت الكلمات كائنات حية “وهي فعلاً كذلك” إذ تولد مثل كل الكائنات الحية وتتقلب مع صروف العيش وظروفه، ما يعني أنها على صلة مباشرة بالحياة تتأثر بها وتؤثر فيها، فإن البيئة أي “الصيغة التي تتقمصها الحياة في ظرف مكاني وزماني ما” التي تتخلق فيها الكلمة وتعيش، وقد تموت أيضاً، تشترط مقابل ذلك أن تترك وسمها على تلك الكلمة وأن تحمّلها بالدلالة التي تعبر عن ماهيتها ” البيئة ” وخصوصيتها، ولأن البيئة ليست حالة طارئة ولا هي قائمة خارج الزمن والحياة، بل هي نتيجة لما اكتنف الحياة من تغيرات وصيرورة طوال امتدادات زمنية قد لا يتيسر تحديدها كامنة فيما وراءها، فالبيئة الآنية أو الراهنة خلاصة بيئات سبقتها، وناتج تاريخ نشأت فيه تلك البيئات وازدهرت وخضعت شأن كل الموجودات لسنة التغير والصيرورة لنتهي إلى هذه القائمة هنا والآن.

إلى ذلك فإن الثقافة بما هي “من بين كل الاهتمامات الحياتية والمعاشية” الأكثر انشغالاً بالمعنى والقيمة كمحددات للوجود بشكل عام وللوعي الانساني بشكل خاص، تفرض على المثقف دون غيره، الاهتمام باللعة ودلالاتها واستعمالاتها وما تنفض عنه تلك الاستعمالات من نتائج حياتية وعملية، وفي سياقنا هذا تجيء المحاولة للفت اهتمام المثقفين إلى ذلك، وهي محاولة يحدها حيز ضيق لا يستوعبها كاملة ولا يفي بحاجتها إلى الوضوح والتفصيل، وذلك ما يدعوها إلى الاستنجاد بالتمثيل على غرضها ببضع شواهد تستقيها من ممارساتنا اللغوية السائرة.

فمفردات (العلمانية، الديموقراطية، والاصلاح الديني) على سبيل المثال رائجة في أيامنا، وكثيراً ما تطالعنا في الاعلام بمختلف منابره، وعبره على ألسنة وأقلام المثقفين والسياسيين والمحللين والمنظرين … إلى آخره. ممن يسمون بالمهتمين بالشأن العام، وهذه تسمية بالمناسبة لا معنى لها، وبالتالي لا قيمة لها، وكأنما صيغت لتفيد أنانية أن من لا يتصدر شاشات المماحكات القبلية والجهوية والايديولوجية أو لا يعتد بها ويحملها على محمل الجد مخلوق أناني، في الوقت الذي يجسد فيه المهتمون بالشأن العام الذين يمارسون (صنعة اللي ما عنده صنعة) أنانيات عجفاء متورمة ويسوِّقون انحيازات متدنية لا يجد فيها الوطني الحقيقي إلّا المهانة له ولوطنه.

فالعلمانية التي ظهرت في سياق ثقافي مغاير للسياق الثقافي الذي ننتمي إليه أي العربي الإسلامي (دون استثناء المهتمين بالشأن العام.. طبعا) ونصدر عنه، وكانت نتاج صراعات ثقافية واجتماعية وسياسية وأيديولوجية دارت في إطار تلك الثقافة، وكانت في حدودها حلاً موفقا لمآزم كيانية ارهقت المجتمعات الأوروبية لأكثر من خمسة عشر قرناً، ومخرجاً من استحواذ ما يسمى الرافد الشرقي أو (التراث اليهودي) لتلك الثقافة مجسدا في تسلط الاكليروس وما يسمى رجال الدين، على رافدها الأصلي ( اليوناني اللاتيني )  بل واغتياله برميه بالكفر ومن ثَمَّ تحريمه، تحت طائلة أشد العقوبات.

استلهم الخيار العلماني إذن الوجه المشرق لثقافة الغرب، وكان بمعنىً ما تأصيلاً لتلك الثقافة في الأرضية التي نبتت فيها ” ودون التطرق إلى التقييمات والاحكام التي قد تستدعيها العلمانية في حدودها الخاصة ” فالملاحظ أن الذين يصرون على حشر العلمانية في تصريحاتهم وتحليلاتهم وآرائهم القطعية، يتجاهلون ” ولعل أكثرهم يجهل ” خصوصية تلك المفردة وما تنطوي عليه من دلالات لن تفهم إلا في ارتباطها بواقعها وببيئتها التي ظهرت فيها بشمول تلك البيئة وسعتها، وعمقها كذلك، وهما جهل وتجاهل يختزلان العلمانية في ثقافتنا إلى سلاحين، يكفي أن نقرأ أو نستمع إلى مناظرة أو حوار أو أن نشاهد عبر الفضائيات مماحكة تتناول شأننا العام، لنرى بعض فرسان تلك المناظرة أو ذلك الحوار يحملون العلمانية رمحاً يطعنون به خصومهم فيما يحملها أولئك الخصوم ترساً يتلقون به تلك الطعنات، وليست العلمانية وحدها بالطبع، بل أن الاسلام بالمقابل يستعمل وبنفس الطريقة اللاعقلانية فالذي لا يستعمل العلمانية يستعمل الاسلام سيفاً وترساً، وما ذلك إلّا ناتج الجهل بالإسلام وبالعلمانية معاً.

مقالات ذات علاقة

مواطنة مغشوشة!

المكي أحمد المستجير

كيف تقاوم بيئة نابذة طاردة!!

فاطمة غندور

زغرودة درنة

فاطمة غندور

اترك تعليق