سرد

إن لم يقتلنا رصاصهم… فحبالنا كفيلة بنا

من أعمال الفنان محمد الشريف.
من أعمال الفنان محمد الشريف.

الايام الماضية وكل صباح بعد أن أوصل الاولاد للمدرسة وهرباً من عزلتي لأكثر من ثلاث سنوات والتي قررت أن اكسر لها انفها.. اذهب وصديقي (خالد الادريسي) لنجلس بمقهى بالمدينة القديمة يقع تحت سور مدرسة (احمد قنابة) لنترافق هناك مع اصدقاء من الماضي الجميل نتحدث في كل شي إلا السياسة.

(لماذا اقرر على كل ما دار بيننا هذا التمني فالحقيقة إننا كنا نتجنب الحديث عنها لكنها بالمقابل كانت تفرض علينا بلادتها فلم نستطع أن نمنعها لكننا كنا نتداولها بالتقطير الممل)

وفي مجمعنا ذاك كان يأتي مع أحد اصدقائنا رفيق له دائم الابتسام اسمه (رياض).

لم يكن بيني وبينه ما يجمعنا من ذكريات، لكننا صنعنا بعضها أثناء تبادلنا الحديث معا رفقة ما تناولناه من سجائر واكواب القهوة بذاك المكان العبق بعطر الماضي الجميل محاطين بأقواس طرابلس وبيوتها القديمة ونتنفس نسيم بحرها.

في المرات الاخيرة كان رياض يختار أن يسحب كرسيه ليجلس لجواري.. كان يحدثني وكأنه يعرفني منذ ألف عام، تحدثنا عن رفاق كانوا في الزمن القديم بيننا رغم كوننا لم نكن نعرف بعضنا حينها، حدثني إنه رغم ما يحدث وحدث له من مواجع.. له رغبة شديدة في الحياة فهو على أبواب الخمسين ولم يتزوج بعد.. لكنه أخبرني إنه قد قرر هذه المرة وان الزواج مشروعه القادم واضاف فرحا حين استشعر لمحة التشجيع بعيني.. نعم قررت ذلك ولقد اخبرت والدتي برغبتي هذه. وقد وعدتني خيرا.

استمر لقائنا الطرابلسي الجميل لأيام.. لكني وفي اخر يوم لامتحان صغيري وبعد أن أوصلته للمدرسة.. عدت لألتقي بخالد كي نمضي معا وكما العادة لذاك الهروب الجميل الذي أحببته وتلك الجلسة بالقلب العتيق لمدينتي..

كان خالد في غير حالته ويشيح بوجهه بعيدا عني.. وعندما أصريت عليه مستفهما كعادتي عن سر قلقه.. أخبرني أن أؤجل الذهاب لذاك المقهى هذه الايام.

استغربت لهجته وإصراره على تغيير الحديث.. لكننا بطرابلس وكان قلوبنا تعودت على طعنات الفقد فماتت أحاسيسها.. فاستمريت بالضغط؛ فقلبي أخبرني أن ثمة امر جلل فلم يتركني خالد لحيرتي طويلا. كما إنه لم يطل علي في الشرح فسكب كاس اللوعة مباشرة بحلقي.. قائلا.

– ما حدث باختصار يا زكريا.. لقد افاقت ام رياض باكرا هذا الصباح فوجدته يتأرجح من سلم البيت معلقا بحبل.. (رحمه الله وغفر له) قال خالد هذا وتركني بعد ان سحب مني عظام ركبتّي اللتان أقف عليهما ومضي هاربا لحال اكيد إنه ليس سبيله.

بدوري بالكاد تمالكت نفسي عائدا للبيت لكني عكس خالد فقد كنت هاربا لحال سبيلي..

عدت لعزلتي من جديد وأقفلت باب البيت (وصوتا براسي يقول لمّا غادرت سجنك الصغير أيها المعتوه هل لتعرف ذاك الشاب وتحبه لأيام ثم تفقده في ظرف ايام ايضا.. كثير على قلبي الصغير هذا الذي يحدث يا ربي).

كان الاولاد قد غادروا لجدّتهم صحبة حليمة بعد عودهم من المدرسة (هذه النعمة الوحيدة التي حظيت بها بذاك النهار) فأخذت أدور كمجنون بالبيت غرفة تأخذني اخرى تردني.. تارة أضع موسيقاي الصاخبة بأذني.. ثم ارمي السمّاعات وارفع صوت المرسكاوي من جهاز التسجيل.. ثم الود بالشيخ الصديق المنشاوي لأستعيد تركيزي فأجدني من فرط مدامعي اكاد أفقده هو الأخر فاسحبه عنوة كي لا أفقده ويصيبني الجنون.

 فاذهب أبعد في العزلة فاقفل على نفسي باب غرفتي (رغم كوني وحيد بالبيت) اسحب قلم الرصاص من حقيبة الاولاد لأكتب وهذه المرة (ليس بالكيبورد) على الورق مالم افهمه ابداً في الصباح التالي.. وووووو ………………………….. فقط فهمت السطر الاخير (أيتها الذئبة ……….. خذيني من فمي بدأت اتعب) *.

يا ربي هذا الفقد الا متناهي يكاد يفقدني صوابي فهون على ما فات منه وامنحني صبر ايوب كي احتمل قوادمه

شتاء 2017


* ما بين القوسين للشاعر (مفتاح العماري) فشكرا مفتاح حتى في لوعة الفقد اجدك تهون عليّ

مقالات ذات علاقة

أيها المعلم…القديس الشيطان !

سراج الدين الورفلي

رسالة هنري ميلر لمحبوبته أناييز نين*

مهند سليمان

رواية: اليوم العالمي للكباب – 3

حسن أبوقباعة المجبري

اترك تعليق