تاريخ

إضاءات من تاريخنا الثقافي والاجتماعي.. (حراك بنغازى نموذجا)

أولا: الأغنية الشعبية في بنغازي… (بدايات وتأثيرات)

الأغنية جزء من تاريخ الأنسان، قطعة من أحاسيسه.. من نبضات قلبه.. ترجمة رائعة لمسيرته ونضاله في الحياة، وبواسطتها -منذ أقدم العصور والحضارات- ظل يبوح بما في أعماقه عن إنفعالاته ومشاعره.. عن فرحه وحزنه.. عن خيبته وانكساراته.. عن حبه وتواصله مع الآخرين.. عن ممارسته لمهنه اليومية وأعماله المختلفة عبر الزمن الطويل. الأغنية رفيق حميم لبني البشر منذ وُجدوا على الأرض، وقد مُيزّ الأنسان بالنطق والإفصاح والضحك وقول الشعر، كما عُرّف من قبل البعض بأنه (مخلوق مغني) وباستثناء الطيور لا يستطيع أيُّ كائن غيره أن يستخدم أصواته في التعبير(1).

والأغنية الشعبية، على وجه الخصوص، كثيراً ما ينال الأنسان معها إنسجاماً، ويشدّه حنينه إليها على الدوام، رغــم تجدّد الذوق لديه ورغم اتصاله المستمر مع الإبداعات الفنية الأخرى، إنها تمنحه بكلماتها وألحانها لحظات صفاء رائعة، وهي، عموماً، قطعة من الوطن.. من تاريخه الثقافي والفني والاجتماعي.. من أصالته وهويته وشخصيته، فأنت عندما تسمعها.. عندما تنصت إليها في أي وقت وفي أي مكــان، تستــلّ منك إعجابــاً وإنسجامــاً واندهاشـاً أيضـاً، وتشعرك منذ الوهلة الأولى بهذا الإحساس، بأنها: (قطعة منك ومن أهلك ومن تاريخك ومن وطنك).

ونشوء الأغنية في بلادنا قديم وله أصول وجذور، وتأثر بصلات فنية أخرى مجاورة وبعيدة، والمصادر التاريخية التي تؤكد ذلك كثيرة، فمثلما نقش الأنسان الليبي القديم رسوماته ولوحاته في كهوف تاسيلي وبني مدنه القديمة وحضارته (وأهراماته أيضاً!) في جرمة ومتخندوش، وغيرها من مدن، اهتم بالعزف والغناء وأفصح عن أحاسيه بالإيقاعات والشعر والرقص. في كتابه (قراءات ليبية) يقـول د. علي فهمي خشيم: (كانت شجرة اللوتس توازي نبات السلفيوم ذيوع صيت في ليبيا القديمة وقد ورد ذكرها في الأوديسه لهوميروس ثم اشتهرت من بعده على مر الزمان، وقد إشتهرت النايات المصنوعة من اللوتس كأفخر نايات في العالم) كما يشير إلى -أثيناوس- في مائدة الفلاسفة حين قال: ان أهل الإسكندرية يتخذون نايات مصنوعة من اللوتس وهو شجر ينمو في ليبيا، وان الشعراء كانوا يطلقون على الناي اسم (الليبي) لشهرة هذه البلاد بالنايات، فأغنت الصفة عن الموصوف(2).

إذاً، هذا الناي الليبي العتيد، هو الزكرة والمقرونة فيما بعد! ويقــول المؤرخ التونسي عثمان الكعاك الذي زار ليبيا في سنــوات الستينيــات الماضية وألقى عــــدة محاضرات تتصل بتاريخنا في بنغازي ودرنة وطرابلس، في بحث له عن (الفن الليبي قبـل الإسلام)(3) أن: (الليبيين عرفــوا الموسيقى في القـرن العشرين قبــل الميلاد على سبيل التقريب، وهو العصر الذي سادت فيه الحضارة الحجرية، وعرفوا الرقص الغنائي الديني عندما هاجر البربر من اليمن وانتشروا بالقارة الأفريقية وجزر البحر الأطلسي وانتشرت في العهد البونيقي في ليبيا فنونهـم الغنائيـة، وهي تشمــل مــن الآلات (اللورة) التي جلبوها من العراق، و(الصنوج) التي اقتبسوها من الهند، و(القانون) المأخوذ من الأيرانيين القدماء).(وهناك إشارات عديدة إلى وجود نوادٍ لإستماع الموسيقى في صبراته ولبدة، وإنتشار مدارس الموسيقى في شحات عاصمة الحضارة الإغريقية في أفريقيا، كما انتشرت، من بعُد، في العصور الأسلامية واشتهرت أنواع عدة من الموسيقى العربية وزار (زرياب) المشهور طرابلس خلال عهد بني الأغلب فأدخل إليها أساليب الأغاني العباسية(4).

عندما وصلت قبائل بني هلال وبني سليم في زحوفها المعروفة إلى ليبيا خلال العصر الفاطمي نشرت بها أغانيها البدوية وملاحمها الشعرية التي كانت أحد الأسس الرئيسة لنشأة وبدايات الشعر الشعبي في ليبيا، الذي يعبر عنه في فترة من الفترات (بكلام هلالية)، إضافة إلى مجئ كثير من الأندلسيين وإقامتهم في طرابلس ودرنة تحديداً الذين جلبوا معهم فنونهم وألحانهم وموشحاتهم بالطبع. ويقال باْن اول بيت قيل بالشعر الشعبى فى هذه الفتره هو.. (امشى لها مشى مرتاح…. وقول يا الله السلامه) (ماجابها مشى ملحاح…. جرى نين طاحن اقدامه) في جانب آخر، ذكر الرحالة الأجانب من الذين مروا أو أقاموا بليبيا، مشاهداتهم عن الجوانب الفنية التي سادت في طرابلس فترة العهد التركي والقره مانلي، وقد أوضحت المس توللي صاحبة كتاب (عشر سنوات في طرابلس)(5) الذي ترجمه الدكتور عبد الجليل الطاهر وقدّم له الأستاذ مصطفى بعيو، عن حضورها احتفال تم في بيت أحد السفراء بطرابلس كان به مجموعة من النساء الراقصات وآخريات يعزفن على الآلات الموسيقية ويقمن بالغناء والإنشاد.

هذه إشارات تاريخية مهمة للفن ونشأته في ليبيا، خاصة المتعلق بالأغنية، وبتأثيراتها المختلفة وفي عصور متباينة، ألقت بظلالها دون شك على رحلة الأغنية الليبية، إضافة إلى المألوف والتواشيح وأذكار الزوايا والحفلات السلامية التي شكّلت في مجملها منطلقات لانتشار الأغنية في المـــدن ومناطق الساحل الليبي ولامستها بصمات من الابتكار والمحاولات المستمرة في التطوير والأداء، إلى أن تميزت بطابعها المتعدد الألــوان في أغاني الزواج، وترقيص الأطفال، وأغاني الرحــا، وأغانـي العلــم، وأغانــي (الجبادة)، وممارسات المهن والأعمال من حرث وحصاد وقص صوف… وغيرها. في مرزق، في أعماق الصحراء، التي أضحت فيما بعد عاصمة لأقليم فزان إبان الحكم التركي، وعبر حركة السكان، وتمازجهم، وانفتاحهم على ما حولهم، انطلق (الفن المرزقاوي) وكذا من الجفرة (تحديداً هون)(6) وهو الأصل الليبي الصميم لكل ما نشأ عنه في فترات لاحقة، متأثراً ببيئته الصحراوية، وبالإيقاعــات والمصطلحـــات الإفريقية، فأثــّر تأثيراً عميقاً في مناطق الساحل، وظل يسري ويتنقل عبر حركة تجارة القوافل بين الشمال والجنوب التي كانت تحمل الفن إلى جانب التمور والعاج وريش النعام والزرابي!.

هذا (المرزقاوي) والفن (الهوني) بألحانه وإيقاعاته يعتمد في أصوله -التي ظلت في الغالب بكـراً وعلى فطرتها- على مجموعة (الحدّادة) المكونة من ثلاثة أشخاص: صاحب المزمار، الزكار، وصاحب أو صاحبة الدربوكة، وصاحب الدفّ أو الطار(7)، وبقى هكذا لم تدخله آلات موسيقية أخرى، ولم يتأثـر بمؤثرات الــمدن الفنية، وكوّن مزيجاً جميلاً من الألحان والإيقاعات و(الملالاه) في المناطق الأخرى من فزان ونواحي الجفرة (هون – سوكنه – ودان – زلّه) وظلت الأغنية بهذا الشكل “ابنة لبيئتها”، فتأثرت وصوّرت أجواء ومشاهد تلك البيئة، وكثيراً ما نلاحظ التشبيهات والتصاوير الفنية المرادفة لها: فالنخيل والديس وفجاج الصحراء والوديان والآبار والعلامات والمعتقدات في الأضرحة والمزارات والغزال وظليم النعام.. وغيرها، من السمات والدلالات المميزة في هذه الأغنية، وهي لم تقتصر على الحالات العاطفية دون غيرها، وإنما كانت تجتازها إلى الهموم المعاشة، والشعور بحالات الحزن، وتعب الأيام، والكدح في سبيل لقمة العيش، والمعاناة من أجلها، وهناك أمثلة كثيرة في هذا السياق.

وتاريخ الأغنية في بنغازي -في الواقـع- مرتبط إرتباطاً وثيقاً بهذا اللون من الفن دون غيره، فالمصادر الفنية والتاريخية لا تذكر أن هناك جلسات للتواشيح أو الطرب الكثيرة مثلما هو الحال في طرابلس التي شهدت أسبقية في هذا المجال، فقد إنجذبت بنغازي وما حولها وبحكم طبيعة المكان والبيئة والظروف المختلفة إلى الشعر الشعبي -أغاني العلم خاصة-، وبوصول اللون المرزقاوي أو الفزاني عموماً مع النازحين من مناطقهم الجنوبية، أو مع حركة التجارة القادمة من هناك، شاع وإنتشر في المدينة، وأسمارها الخاصة، وربما في هذه المرحلة إلتصقت صورة الغناء إجمالاً بمفهوم (العيب)، عكس طرابلس ومرزق والجفرة ودرنة، التي كانت مجتمعات مفتوحة شهدت سهراتها ومناسباتها لقاء الأقارب والأسر دون شعور بالخجل، بإعتبار أن الفن جزء من الحياة الاجتماعية ومن الواقع المعيش، ولعل التشويه قد حصل للظروف السائدة وظهور بعض المفرادات الركيكة والتعبيرات التي كانت إنعكاساً لتلك الظروف والتقاليد. وقد ظــل هذا الأمــر (يلاحق) الكثير إلى فترات قريبة ممن عنـــوا وإهتموا بالفــن والغنـاء.

مع إنتشار اللون المرزقاوي في بنغازي أهتم (أهل الفن) وبجهودهم الخاصة، ودون وجود مدارس أو معاهد لتعليم الموسيقى، إلى التطوير والإبتكار فابتدعوا أوزان وألحان أخرى تفرعت عنه وأصبحت مشهورة، فنشأت عن المرزقاوي أربعة أنواع بألحانها وأوزانها، ثم قالب آخر سمي (البنغازي أو الطرابلسي) أو (الساحلي) -البلدي-، وقالب ثالث، الفزاني،الذي يعتبره الأستاذ يوسف الدلنسي: (الينبوع الذي تستقى منه جميع الاتجاهات الفنية سواء في برقه أو طرابلس)، إضافة إلى أنواع البرول والموال.

هذا الفن، كما أسلفت، حبيس الجلسات الخاصة، والأماكن البعيدة، وأجواء (الزرادي)، وبعض البيوت، إلى أن تأسست محطة الإذاعة اللاسلكية في بنغازي مع بداية سنة 1948 تقريباً في موقعها بمعسكر الريمي بالبركه، والتي شرعت في الإهتمام به، وتقدم الفنانون إليها بكلماتهم وألحانهم، واستفادوا من مخزون تراث الأغاني القديمة، وشهدت هذه الأجواء ظهور أجيال من المطربين والملحنين وكتّاب الأغاني الذين أسهموا في انتشار الأغنية الشعبية الليبية بشكلها الجديد، وكان لهم الدور الرائد في هذا الشأن.

ثانيا: بعض من سيرة الصحافة الأدبية في بنغازي
“صحيفة الحقيقة / نموذجاً”

قبل أن أشرع في حديثي حول (الصحافة الأدبية) – أريد أن أمهد ببعض النقاط التي أراها لازمة: لم تعرف بنغازي صدور أية صحيفة حتى سنة 1919،.. طرابلس كانت قد سبقت إلى ذلك، تحديداً في سنة 1866، حيث صدرت بها صحيفة (طرابلس الغرب)، قبل صدور صحيفة الأهرام في مصر، التي صدرت بعدها بأعوام في سنة 1875. قبل ذلك، وفي سنوات بعيدة، تولى المثقف الليبي المتنور، بمعايير ذلك الوقت، (حسونة الدغيّس) الذي تلقى تعليمه في باريس وترجم بها كتابين من الفرنسية إلى التركية اللتين كان يجيدهما،.. تولّى رئاسة تحرير صحيفة (تقويم الوقائع) وهي صحيفة رسمية وأصدرها بالفرنسية في الأستانة -عاصمة الخلافة آنئذ- سنة 1835، لمدة سنة حيث توفي بالطاعون في 1836.(8).

في سنة 1919، فترة الإحتلال الإيطالي، صدرت في بنغازي أول صحيفة، وهي (الحقيقة) وكانت تطبع في مطبعة أنشئت لهذا الغرض بشارع زوارة، وظلت تصدر إسبوعياً لمدة أربع سنوات تقريباً، وبتحرير (جان أولمى) يعاونه بعض أبناء المدينة، وقد نشرت بعض أخبارها ومقالاتها بالعامية، مراعاة لمستوى ثقافة الناس السائدة، وهذه الصحيفة ربما لم تذكر في عديد المراجع والمصادر(9)، ومنها كتاب (الأستاذ علي المصراتي – صحافة ليبيا في نصف قرن) ولعلها لم تقع تحت يده فيما وجده من مصادر، فصدر كتابه القيم دون الإشارة إليها. بعدها مباشرة في سنة 1920، والمدينة تشهد فترة هدوء نسبي، صدرت صحيفة (الوطن) وهي أول صحيفة (شعبية) يصدرها أحد أبناء الشعب من بنغازي بجهده وماله، وهو الصحفي (عوض بونخيله) المولود في بنغازي سنة 1898 والمتوفى بتركيا سنة 1960، من الشباب الوطني المثقف الواعي، وكان مقرها بسوق الوحيشي وسط المدينة، وقد أشير في ترويستها إلى أنها (جريدة سياسية إجتماعية واقتصادية)، وتساوق إصدار هذه الصحيفة مع تأسيس نادٍ ثقافي من قبل بونخيله نفسه ضمه مع شباب آخرين من المدينة، لنشر الوعي الوطني والفكري -حسب الإمكانيات المتيسرة- بين أبناء المدينة، وكانوا ينشرون بها بعض مقالاتهم، ويقومون بمساعدته وتحريرها، مثل أبوبكر جعودة، وعمر فخري المحيشي، واحمد مخلوف، ومحمد بن عامر، وساسي شتوان، وغيرهم، صدر من (الوطن) بضعة أعداد، ثم توقفت لتغير الأوضاع في إيطاليا فيما بعد ومجئ الفاشست إلى السلطة، فأضطر بونخيله إلى الهجرة إلى تركيا تحت وطأة الملاحقة والمطاردة، وحكمت عليه إيطاليا بالإعدام غيابياً، كذا هاجر بعض صحابه إلى أقطار مجاورة.

وتقديرا لهذه الصحيفه وصاحبها اطلقت جمعية عمر المختار الاسم نفسه على صحيفتها (الوطن) التى صدرت بديلا عن مجلتى برقه الرياضيه وعمر المختار بعد سنة 1943 فى بنغازى… بعد ذلك توالى إصدار الصحف، وأسست مطبعة بالعربية في بيت المحيشي فظهرت على سبيل المثال بريد برقه سنة1921 ومجلة ليبيا المصورة سنة1925 التي أهتمت بنشر قصائد أحمد رفيق وأحمد الشارف، ومحمد الحصادي، وصالح الشنطه وصالح بوسدره وعبدالسلام بن عمران وغيرهم وقصص وهبي البوري، ومقالات لحميدة العنيزي وخديجة الجهمي، والسنوسي الغزالي، وغيرهم من كتّاب آخرين من أرجاء ليبيا عموماً(10)، حول موضوعات مختلفة في الأدب والنقد، يلاحظ أيضاً أن رفيق الشاعر، نشر بها مقالاته النقدية مثل (المتجبرنون، الوزن والقافية، قم وقف في شعر شوقي…. وغيرها).

والواقع، لا نستطيع القول بأن هناك (صحافة أدبية) بالمعنى المتخصص أو الحرفي، لأن البيئة والظروف تختلف كثيراً عن واقع العالم اليوم، فالإمكانيات البسيطة، وقلة المصادر الثقافية، وعدم وجود عديد المثقفين من الكتّاب والنقاد، وغير ذلك، إضافة إلى إنتشار الأمية، وظروف الحرب والاحتلال التي يمر بها الوطن، لم تساعد في تأسيس نهضة ثقافية أو فكرية بمعناها الشامل والتي ينشأ عنها ظهور (كتّاب) يتواصلون مع القضايا الأدبية، استثناء من المعلمين الوطنيين الذين كانوا يقومون بتنشئة جيل من الطلبة بدروسهم الوطنية، رغم ظلام الإحتلال.

 صورة الصحفى الوطنى عوض بونخيله (مؤسس صحيفة الوطن بنغازى 1920)
صورة الصحفى الوطنى عوض بونخيله (مؤسس صحيفة الوطن بنغازى 1920)

ثم توالى صدور الصحف، في سنوات الحرب العالمية الثانية، بجريدة (بنغازي) سنة 1943، فترة الإدارة البريطانية عن مكتب المطبوعات، وقد نشرت بعض المقالات والقصائد مع طابعها الإخباري والدعائي، وكانت تصدر يومياً، وهي التي تحولت فيما بعد إلى صحيفة (برقة الجديدة) ثم إلى صحيفة (الأمة) أواخر سنة 1967، وبعدها صدرت مجلة (برقة الرياضية) في أغسطس 1943، وتحولت فيما بعد إلى صحيفة (الوطن) التي واصلت صدورها إلى سنة 1951 مع توقف جمعية عمر المختار.ثم صدرت مجلة (عمر المختار) في نفس الفترة (1943) وهي مجلة شهرية للآداب والعلوم والفنون، تولت الاهتمام بنشر القصائد والمقالات والقصص، لكنها توقفت بعد عام من الصدور.

ثم صدرت صحف أخر، عبر ذلك الزخم السياسي والصراع العنيف الذي شهدته البلاد بكاملها فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، اهتمت بنقل ما يعتمل في الصدور من التطلع إلى الحرية، فظهرت مثلاً صحف (الاستقلال) و(صوت الشعب) و(الجبل الأخضر) وغيرها، ثم مجلة (ليبيا) سنة 1951، وهي مجلة (شهرية أدبية إجتماعية رياضية ثقافية علمية) ثم أختصر التعريف إلى مجلة (شهرية أدبية)، وساهمت في نشر الوعي الثقافي بنشر المقالات والقصص والمختارات الأدبية، وكذا بعض مقالات لطالبات من بنغازي تلك الفترة، وتوقفت سنة 1953، كما نشر بها أساتذة من مصر من أعضاء البعثة التعليمية ببنغازي نتاجهم الأدبي والعلمي أيضاً. كانت ظروف أزمة الورق والطبع تلك الآونة، تعيق إلى حد ما مواصلة الصدور، إضافة إلى عوامل أخرى، فيتعثر الإصدار وتتوقف الصحيفة أو المجلة نتيجة لهذه الظروف الفنية القاسية.

خلال هذه الفترة نشط الطلاب في إصدار بعض النشرات، تولّى بعضها عثمان الكاديكي وعبد المولى لنقي، سنة 1944 باسم (برقة الفتاة)، واصدر نادى الشباب الادبى مجلة الامل سنة 1947 وحررها سعد بوقعيقيص وعبدالحميد الرعيض ومحمد الجروشى ثم في مرحلة لاحقة صدرت مجلة (أقلام)، بتحرير مجموعة أخرى من طلبة مدرسة الأمير في المرحلة الثانوية وهم محمد بن يونس، ومصطفى الشيباني، وأحمد يونس نجم ومفتاح مبارك الشريف وغيرهم وبإشراف الأستاذ محمد السعداوية وحسين فليفله ولكن هذه المحاولات توقفت، لظروف الدراسة، وذهاب هؤلاء الطلبة وغيرهم لتكملتها في مصر، وقد أهتمت هذه النشرات عموماً بالقضايا والموضوعات الأدبية والوطنية.

في القاهرة، إمتداداً لهذا النشاط، تولى محمد بن يونس وزميله مفتاح السيد الشريف وآخرين تحرير مجلة (صوت ليبيا) سنة 1953- 1954، ضمن نشاط نادي ليبيا الثقافي هناك، وكانت استمرارا لجهود المؤسسين وفى مقدمتهم الاستاذان محمد عمر الطشانى وفاضل المسعودى وغيرهما الذين كانوا ينشطون فى نادى طرابلس الغرب فى القاهره ثم نادى ليبيا بعد اعلان الاستقلال (وقد اصدرا فى القاهره مع زميلهما مجلة المعركه فى عدد وحيد سنة 1954 ولم تستمر).

ونشر بمجلة صوت ليبيا عديد الطلبة من أبناء الوطن كافة مقالاتهم ونتاجهم الأدبي والشعري، مثل رجب الماجري، وخديجة الجهمي، وعلي بوزقيه، وعبد الحميد النيهوم، ومفتاح مبارك، وعامر الدغيس، ومنصور الكيخيا، وغيرهم. في جانب آخر، أصدر طلبة معهد المعلمين في بنغازي مجلتهم (المعلم) مع مطلع سنة 1953، وواصلت الصدور فترة من الزمن، وهي التي شهدت إنطلاقة الشاعر (عبد الحميد عمران)، و(محمد عبد الله المحجوب)، والكاتب (أبوبكر الهوني) والقاص (محمد على الشويهدي)، وغيرهم، وشارك معهم بعض الأساتذة المصريين الذين كانوا يقومون بالتدريس في المعهد.

ثم أصدر طلبة مدرسة بنغازي الثانوية مجلتهم (رسالة الطالب) سنة 1957، وهي التي شهدت نشر أول مقالة للطالب (الصادق النيهوم) بعنوان (شعب يكتب تاريخه بالأغنية). هذه المجلات (الطلابية) على بساطتها وطباعتها قامت بدور صحفي وأدبي مهم، في إكتشاف المواهب من الطلبة وتشجيعها، وقد واصلت بعض تلك الأقلام رحلتها في مجال الإبداع برسوخ قدم فيما بعد.

سنة 1957، كانت سنة ثقافية خصبة على مستوى الوطن، فقد تأسست الإذاعة الليبية وهي التي شجعت الأدباء والكتاب في التعاون معها، وساهمت في الإهتمام بالأدب والفن، وكانت (الجامعة الليبية) قد تأسست قبل ذلك بعامين (1955) وساهمت بدورها بوجود أساتذة مشهود لهم بالعلم والكفاءة، وصدرت أعمال أدبية ذلك العام (1957): (الحنين الظامئ) أول دواوين على الرقيعي، والشابي وجبران لخليفة التليسي، وأحلام وثورة لعلي صدقي عبد القادر، ونفوس حائرة، أول مجموعة قصصية أو بالمعنى الأصح (صور وتعابير قصصية) لعبد القادر بوهروس، و(إبراهيم اسطى عمر) لعلي مصطفى المصراتي وتزامن ذلك في بنغازي مع صدور مجلتين مهمتين اعتنتا بالثقافة والفكر، أولاهما: مجلة الضياء في 10 مارس 1957، وقد رأس تحريرها مختار الأشهب، وأستمرت في الصدور إلى سنة 1958، ونشرت نتاج طالب الرويعي ويوسف الدلنسي، وكامل المقهور، وقصائد عبد السلام قادربوه وحسن صالح وخالد زغبيه ومحمد السباعي، ومقالات مفتاح السيد الشريف… وغير ذلك. ثم مجلة النور، وهي مجلة ثقافية شهرية صدرت بعد (الضياء) بثلاث أشهر في مايو 1957، برئاسة عقيلة بالعون، وأدار شؤونها وتحريرها بشير المغيربي، وأحمد العنيزي، ونشرت لمحمد مصطفى بازامه، وأول قصائد لرشاد الهوني، وعلي مصطفى المصراتي، وأبو بكر الفقهي، وعلى عميش، ومحمد المطماطي، وسليمان تربح، وعبد الكريم لياس، وعبد المولى دغمان، ومحمد حمى، وعامر الدغيس وسالم بوقعيقيص، وغيرهم. خلال هذه الفترة قام طلبة كلية الآداب وبواسطة لجنتهم الثقافية بإصدار مجلة (المنار) بإشراف الدكتور (محمود السعران) في يونيو 1959، وصدر منها عدد واحد فقط، أشتمل على مقالات وموضوعات أدبية ونقدية، وتطور إصدار الطلبة فيما بعد في الكلية بإصدارهم مجلة (قورينا) أواخر سنة 1967.

وطوال هذه المدة، شهدت بنغازي منذ مطلع الخمسينيات صدور صحف: المنار، الدفاع، التاج، الزمان، والعمل، والبشائر، والرقيب، وقد أسهمت في تشجيع الأقلام المختلفة، فيما إحتوى بعضها صفحات ثقافية أسبوعية، إهتمت بنشر ومتابعة ما يتصل بالأدب والثقافة، ولفتت إنتباه القراء إلى بعض الأصوات الواعدة الجديدة، وقضايا المجتمع، وتعاطف الكتّاب معه، والاهتمام بالتراث الشعبي وبالدراسات حوله، وغيرها من موضوعات فكرية وأدبية، ثم صدرت مجلة (جيل ورسالة)(11) في جزء من أعدادها من بنغازي بداية من سنة 1970، وأهتمت بالموضوعة الأدبية، وساهمت في إنطلاق عديد المواهب، وأصدرت ملفات ثقافية عن (الصادق النيهوم) و(خليفة الفاخري) و(يوسف القويري) إضافة إلى كتيبات شهرية ثقافية في موضوعات مختلفة، كما أسهمت الأندية الرياضية عن طريق لجانها النقابية في إصدار صحفها الحائطية والمجلات المطبوعة نشرت بها نتاج كثير من المواهب والأقلام داخل هذه الأندية وخارجها، إضافة إلى إقامة الندوات والمحاضرات على مدى مواسم كاملة.

فى 7 مارس 1964 صدر أول عدد من صحيفة “الحقيقة” إسبوعياً، وإضافة إلى إهتماماتها الصحفية المعروفة عن كل صحيفة، أتجهت إلى الأعتناء بالحياة الثقافية، فنشرت دراسات وبحوث عديدة في مثل هذه القضايا، وضمت مجموعة من الكتاب في بدايتها أولوا تلك القضايا روىً خاصة.. وظلّ همّاً في أعماقهم يعكس النية في تطور المجتمع، مثل رشاد الهوني، وعبد الله القويري، ويوسف القويري، ومحمد فاضل زيان، ومحمد الشلماني، ومحمد عبد الرازق مناع، واحمد الحريرى، واحمد بشون وغيرهم.

ثم تطورت الصحيفة، فأمتلكت مطبعة خاصة انتقلت إليها، وشرعت في الصدور اليومي إعتباراً من 7 مارس 1966، وقد شكّل هذا التطور مدرسة جديدة في الصحافة الليبية في الإخراج والأسلوب والفكرة، أستندت إلى واقع المدرسة التقليدية في الصحافة الليبية واستفادت منه وطوّرته، وسط هذا المناخ برزت (مدرسة الحقيقة) بكتابها وقرائها، الذين خلقت معهم تواصلاً واضحاً، وأصبحت القراءة بفضلها عادة يومية. عَرف القراء هنا، الصادق النيهوم، وأنيس السنفاز، وخليفة الفاخري، ومحمد أحمد وريث، وحسين مخلوف، وسالم قنيبر، وأحمد إبراهيم الفقيه، وأمين مازن، وأبوبكر الهوني، وحميدة البراني، وعلي فهمي خشيم، ومحمد علي الشويهدي، وعبد الرازق بوخيط… وغيرهم، وأهتمت بالمواهب وأكتشفت عديد الكتاب الذين نموا وسطها مثل: محمد المسلاتي، وسالم الكبتي، وأحمد ابو بكر المسلاتي، وزكري العزابي، ومحمد قصيبات، وعوض بريك، وسالمة الفاخري…. وغيرهم. وتقدّم في صفحاتها شعر على الفزاني، ومحمد الشلطامي، وخلقت علاقات ثقافية بعديد المثقفين في البلاد، وكذا مع بعض أساتذة الجامعة الذين نشروا دراساتهم بها، واستقطبت بعض الكتّاب العرب الذين كانوا في بنغازي مثل بكر عويضه، وسمير عطا الله، ويوسف حسين، وتاج السر كنّه، وتميزت صفحة النصف الآخر التي أشرفت عليها حميدة البراني بإبداعاتها وإبداعات أخريات مثل ثريا الفقيه، وحليمة بسيكري، وغيرهن، ولم تكن صفحة تقليدية مختصرة على وصف الأطعمة أوحل المشاكل الأسرية فقط. لقد أفادت الحقيقة وإن لم تكن أدبية صرفة، الواقع الثقافي الليبي، وخلقت جسراً متيناً مع القارئ، وربما حملت صفحاتها عديد الآراء والمقالات والدراسات الجريئة للنيهوم مثل (الرمز في القرآن) و(الحديث عن المرأة والديانات)… وغيرها، وكذا لعديد الكتاب الآخرين الذين شارك بعضهم في معارك فكرية وأدبية عن إصدارات طبعت، أو قضايا لها حضورها القوي آنذاك.

غلاف مجلة الأمل

لقد مثّل جيل كتّاب الحقيقة بانتمائهم لتيار التجديد والتطور في الأسلوب، والعمل الصحفي الممتاز، خصوصية شهدتها بنغازي طوال فترة صدورها، وبصمت الأفق الثقافي ببصمات مهمة بقت تأثيراتها لدى الكثيرين واستفادوا منها، وكان لإنتشارها الدور الكبير في الحياة الثقافية عموماً في ليبيا، وظلت إمتداداً رائعاً لجهود وطنية سابقة أداها جملة من الرجال المخلصين المؤسسين.. لمهنة الصحافة في ليبيا.

ثالثا: القصة القصيرة في بنغازي… بدايات وملامح الحياة،

حياة كل إنسان، في مجملها قصة طويلة وكبيرة، وهي تستحق أن تعاش.. أن يُكتب عنها.. ويُروى عن شجونها وشؤونها وتفاصيلها بكل صدق وأمانة. الحياة، حياة كل إنسان، فوق أرض الله تجربة مهمة وقصة في حد ذاتها، وكتّاب القصة، في هذا الوطن والعالم كله، على وجه العموم، هم أعين مفتوحة على الحياة الإنسانية.. وشهوداً عليها.. بقصصهم.. وحكاياتهم.. ورواياتهم، وفنهم الجميل. الحياة، قصة، ومع ميلاد الإنسان، مع شهقته.. وصرخته الأولى، يبدأ القص والسرد، وقد تولى هذا الجانب أولاً وتعهده تماماً -الأدب الشعبي-، برزت القصة والحكاية الشعبية.. والخرافة.. وأطلت برأسها العوالم العجائبية من غزل الحكايات التي يتماهى معها الطفل منذ صغره ويحيا جوانبها إلى أن يشب عن طوقه بكل شوق.. وربما بخوف.

وأولى نصوص القصة لدينا، هي القصة الشعبية المنطلقة من أفواه العجائز اللواتي كن ينسجن هذه الحكايا في الليالي، وعبر ضوء السراج الواهن، لقد كانت البيئة الليبية، في بنغازي على سبيل المثال، بيئة حكايا وقصص ومسامرات، في زمن ندرت فيه وسائل التسلية، والاتصالات، والفضائيات…. وما إليها.

كان أسلوب السرد والقص جميلاً وحلواً، ونشأت تلك القصص تحت أسقف البيوت وفي أركانها، وفي الريف البعيد، وفي النواجع القصية، كل حجر من أرجاء الوطن تحته قصة وحكاية، من مثل قصص إحميده بن السلطان، وشي بن شي، وأم بسيسي، وخود وحسن العادلي، وطريق العجب، والنص أنصيص، وقصص الهلالية وسيرتها وشخوصها الأبطال. ثم مع الشعر الشعبي، وهو من أنواع الثقافة الأصيلة للشعب، ولدت من ترانيم الشعراء، القصص والملاحم الشعرية أيضاً، مثلاً.. رحلة الشاعر علي بوفلاقة(12) التي تماثل (رسالة الغفران) للمعري و(الكوميديا الآلهية) لدانتي، وفيها وصف وتخيل للجنة والنار في تلك الملحمة الطويلة، ثم السن، والبير لهاشم الخطابية(13)، وتجارب أخرى للعديد من الشعراء الآخرين.

إضافة إلى ذلك، فإن من الألغاز الشعبية، تنهض أكثر من قصة، وكذا الألعاب.. وكذا الأمثال.. وهكذا تشكّل في مجموعها قصصاً وروايات مثّلت بدايات وإرهاصات القصة لدينا.. بعفويتها.. وفطريتها.. وأصالتها، وعلامات تكوينها المبكر وتأسيس مرحلة من مراحل الاندهاش والتواصل في هذا العالم. والكل عرف هذا.. شارك.. وسمع… وضمته حلقات القص، فيما شهدت المجالس والمرابيع والمقاهي رواة وحكائين يروون القصص والأساطير عن عنترة والصفيرة عزيزة.. وما إلى ذلك.

من هنا بدأت القصة.. وبهذا الشكل البسيط، ولكنه الضارب في الجذور والأعماق. يقول القاص المرحوم (يوسف الدلنسي) في مقالته الشهيرة (أدب القصة في ليبيا) نشرها في صحيفة (فزان):(14) (من طبيعة الشعب الليبي أنه شعب قاص إذا صح التعبير أي أنه ورث تراثاً قصصياً كان يتلهّى به ويتسامر بما يرويه من قصص هي أقرب إلى الأساطير منها إلى الحياة الواقعية التي يعيشها الناس في هذا الجزء من أرض العرب).

والقصة القصيرة بسماتها المعروفة فيما بعد أنطلقت في ظروف تكاد تشابه الظروف نفسها للقصة في البلاد العربية، ولم تأخذ تشكلها الفني إلاّ في فترات تباينت فيها تجارب القصاصين ونالت تطوراً على مدى فترة من الزمن.

والواقع يؤكد أن بدايات القصة القصيرة في ليبيا انطلقت في بنغازي، عندما نشر وهبي البوري أولى قصصه وهي (ليلة الزفاف) في عدد شهر أكتوبر سنة 1936، من مجلة ليبيا المصورة، وقد اعتبرها النقاد والدارسون: (أول قصة ليبية تتوفر لها شروط القصة الفنية في الأدب القصصي الليبي الحديث)(15) عندما بدأت القصة العربية تسير وتتلمس طريقها، كانت لدينا تحبو وربما ببعض محاولاتها وتجاربها المتواضعة سبقت آخرين فمثلاً قصة الدكتور البوري المشار إليها سبقت كتابة نجيب محفوظ لأقاصيصه التي نشرها في مجموعة (همس الجنون) سنة 1938 ثم أردفها بمجموعة قصص تستدعي تاريخ مصر القديم هي: عبث الأقدار 1939، وادوبيس 1943، كفاح طيبة 1944، إلى أن أخذت قصصه ورواياته المعروفه لاحقاً مسارات مغايرة تختلف فيه عن أخواتها بدءاً من القاهرة الجديدة سنة 1945.

تلك هي أولى مراحل بدايات القصة القصيرة في بنغازي ومن بعُد في ليبيا، حيث واصل البوري نشر تسع قصص في الأعداد التالية وعلى مدى سنوات من مجلة ليبيا المصورة، واحتفظ بمجموعة نشرها في مرحلة قريبة، منها (رابحة) و(البئر المهجور)، و(عزيزة)، ولا ننسى هنا وفي سياق هذه المرحلة – البداية، قصيدة الشاعر أحمد رفيق عن (غيث الصغير) -وهو شخصية حقيقية استعمل الشاعر اسماً مستعاراً له- سنة 1934، ويلاحظ القارئ فيها شكل القصة الشعرية، أو (المسرحية) محاكاة لشوقي في بعض ما نظمه، وكذا قصته (القطوس) سنة 1938. وتأتي المرحلة الثانية، وتبدأ في سنة 1951، وإلى سنة 1953، مع صدور مجلة (ليبيا)(16) التي نشرت بعض القصص -هي أقرب للصور الذاتية أو الخواطر- للشريف الماقني، ومحمود السعداوية، ومحمود دهيميش، وجبريل الحاسي، وعبد القادر بوهروس من طرابلس، وهي مرحلة (وسطية) أن صح القول، فقد سبقتها فترة اختفاء للقصة أو عدم إهتمام بكتابتها نتيجة لظروف الحرب العالمية الثانية، وجلاء الناس عن المدينة، وتوقف صدور ليبيا المصورة ووفاة صاحبها(17) مطلع سنة 1942، ثم عوامل المخاض السياسي والاجتماعي الذي ساد الوطن بأجمعه وجعل من الناس -القراء- ينصرفون إلى الاهتمام بالشعر والمقالة خاصة السياسي منها.

ومع سنة 1953 -حيث توقفت تلك المجلة عن الصدور- بدأت فترة ثالثة في تاريخ مراحل القصة القصيرة في البلاد، ونهض جيل ولد في بنغازي مع بداية حقبة سنوات الثلاثينات التي شهدت بدايات القصة وبذرتها الأولى، نهض بأعباء هذه المرحلة، فشرع أحمد العنيزي، ويوسف الدلنسي، وطالب الرويعي، ومفتاح السيد الشريف، وأحمد البيرة، وفتحي المجريسي -الذي تعثرت خطواته ولم يستمر- في نشر نتاجهم القصصي في صحف طرابلس الغرب، والزمان، وبرقة الجديدة، ومجلة (هنا طرابلس الغرب)، ثم في (العمل)، ومجلة (الضياء)… وغيرها، واقتربوا من الواقع بتلك القصص وصوّروا ظروف الحاجة والفقر وسنوات ما بعد الحرب ومواجهة قوى الشر الظالمة للإنسان، وحلموا بعالم نظيف، وتطلعوا إلى امرأة جديدة تشارك في بناء ذلك الواقع وتسهم فيه رغم العادات وأسر التقاليد الصعبة، كما تعاطفوا في قصصهم أيضاً مع كفاح الشعوب في الجزائر وفلسطين، وغيرها من شعوب أفريقيا وآسيا، وربما في هذه القصص طغت المحلية والعامّية في بعض ملامحها. لكنها تظل علامة من علامات القصة القصيرة المعاصرة في ليبيا، والتي لابد أن يذكرها الباحثون والدارسون، مع ملاحظة عدم إسقاط أو أستعمال المقاييس النقدية الحالية على نتاج تلك الفترة التاريخية المهمة للقصة في بلادنا.

وقد تميزت هذه المرحلة بتأثر هؤلاء النفر من القصاصين وغيرهم بكتابات محمود تيمور ومحمود صدقي ويوسف السباعي، ومحمد عبد الحليم عبد الله، ثم بكلاسيكيات الأدب العالمي (تولستوي – تشيكوف – ديستو فسكي – جوركي – همنغواي) التي تركت بعض من طابعها في نتاجهم، وذلك ليس عيباً في كل الأحوال، وقد حدث ذلك أيضاً في بداية التجربة الشعرية الليبية المعاصرة التي حاكت تجارب البياتي والسياب ونزار قباني وغيرهم، إن ذلك شئ طبيعي ومفروغ منه، وقد اتضحت ملامح هذه التجارب القصصية والشعرية كثيراً في مراحل متعاقبة عن الأولى. في يوليه 1955، أصدرت مجلة صوت المربي(18) في طرابلس عدداً خاصاً عن القصة تضمن مشاركة واحدة من بنغازي لجبريل الحاسي، وفي ذلك العدد كتب كامل المقهور بأن (القصة الليبية ابنة غير شرعية للمجتمع الذي نعيش. إنها مجموعة من الخيالات، والتقليد، والإقتباس..)، كما أهتمت الإذاعة الليبية منذ تأسيسها سنة 1957 بركن القصة(19) في برامجها وأتاحت الفرصة للكثيرين في إذاعة نتاجهم على الهواء.

في بداية الستينيات من القرن العشرين (1961) وما تبعها من سنوات، أطلت مرحلة أخرى وهي الرابعة، من مسيرة القصة القصيرة، وشهدت أهتماماً بها، وتنظيم مسابقات فيها، ونشرت أعمال قصصية أختلفت مضامينها وتجاربها وهمومها في ملامسة الواقع والتعبير عنه سياسياً، واجتماعياً، وهي فترة تفجر فيها النفط ونزح الناس من القرى والأرياف إلى المدن ومعسكرات (البترول)، وانعكست بالتالي على مجمل الإبداعات الأدبية، إضافة إلى إنتشار الثقافة والتعليم وإيفاد البعثات الدراسية للخارج، ومن ذلك قصص رشاد الهوني، وعبد السلام شلوف، والصالحين نتفه، ومحمد عبد السلام الشلماني، وفرج الشريف، وخديجه الجهمى، وفتحية مازق، ورمضان بوخيط، ورجب الشلطامي، وأبوبكر الهوني، وأنيس السنفاز، وعبدالحميد الطيار، وقدريه بن صويد، وسعد نافو، وسعد الحداد، وحميدة البراني، وبن عيسى الجروشي، ومحمد على الشويهدي، والشعراء: عبد ربه الغناي، وإبراهيم الهوني، وحسن صالح، ثم سالم قنيبر، والصادق النيهوم، وخليفة الفاخري، (هذه الأسماء على سبيل المثال)، ومحمد جعودة الذي سجل أحداث مقتل والده وأعمامه على يد الطليان في مذبحة أسرة آل جعودة سنة 1941، في قصة طويلة رائعة لم تنشر إلى الآن.

وهذه المرحلة في بنغازي، إضافة إلى إنطلاقة قصاصين آخرين في طرابلس: عبد الله القويري ويوسف القويري، ويوسف الشريف، وأحمد إبراهيم الفقيه، وخليفة التكبالي، وغيرهم، شكلت مرحلة خصبة لتنامي فن القصة وتأسيسه في ليبيا، وتطور أدواته الفنية والتقنيه، وهي التي أفضت إلى مرحلة جيل آخر، بدأه في نهاية الستينيات القاص (عبد الله الخوجه) بمجموعته (فتاة على رصيف مبلل)(20)، التي تعتبر لوناً مميزاً للقصة الحديثة الليبية في عباراتها وظاهرتها المتفردة آنئذ.

وتمازجت هذه الأجيال وتواصلت ببروز مجموعات أخرى أكتست تجاربهم بملامح من الرصانة وفن السرد والقدرة على التطور، وقد واكب أغلب هذه المراحل دراسات نقدية لهذا النتاج الغزير، لنقاد ودارسين عرب من ذلك ما نشره د. طه الحاجري، د. عبد القادر القط، وأحمد محمد عطيه، وغيرهما، إضافة إلى الدراسات من النقاد الليبيين مثل حسين مخلوف، وسالم قنيبر، وسليمان كشلاف، ونجم الدين الكيب، وغيرهم.

والحديث عن تاريخ القصة يدعونا إلى حث (الوريث الثقافي) -إن وجد!- على الاهتمام بنشر ما ورثه من نتاج قصصي وأدبي حرصاً عليه من الضياع والفقد، وليكون بأيدي الدارسين والباحثين، إضافة إلى دعوة هؤلاء القصاصين من الأحياء لطبع ونشر إبداعاتهم المختلفة التي كتبوها بإخلاص منقطع النظير.

__________________________

الهوامش

1. جارة القمر، فؤاد بدوي. الدار القومية للطباعة والنشر. القاهرة (د.ت).

2. قراءات ليبية، علي فهمي خشيم، دار مكتبة الفكر، طرابلس (د.ت).

4.3. عن (الفن والمسرح في ليبيا) بشير محمد عريبي، الدار العربية للكتاب، 1981.

5. منشورات الجامعة الليبية، طبع دار ليبيا، بنغازي 1967.

6. أسهمت مجموعة من العائلات والأسر التي انتقلت من هون وأقامت في مرزق منذ سنوات بعيدة بحكم المعيشة والتجارة والمصاهرة، في مزج الفنون المرزقاوية بالطابع الفني (الهوني) كلمات وألحانه، وربما حصل تداخل كبير هنا في ذيوع الفن القادم من مرزق عبر هذا الإمتزاج.

7. عريبى.. مصدر سابق.

8. حسونة الدغيس.. أول ساسة العرب العلمانيين، (مخطوط)، محمد مصطفى بازامه.

9. أشارت إليها الباحثة أسماء الأسطى في دراستها (الصحافة الليبية.. دراسة حصرية تحليلية وببليوغرافيا 1866-2003)، وهي في الأصل أطروحة لنيل الماجستير، ونشرت في كتاب ضمن منشورات مجلس الثقافة العام. بنغازي 2008.

10. منهم: أحمد الفقيه حسن، علي صدقي عبد القادر، محمد الهنقاري، محمد بن زيتون، عبد الكريم جبريل.. وغيرهم، وقد كانت المجلة واسعة الإنتشار والتوزيع في معظم المدن الليبية ذلك الوقت.

11. أول عدد منها صدر في مايو 1964. طرابلس. وكانت تطبع في بيروت بمطابع دار الكتب.

12. هو: علي صالح بعيص المغربي، من عائلة جضران، بيت منصور المغاربة. غلب عليه لقب (بوفلاقة) لأنه إشترى بندقية وظل يقسم بها (وحق ها الفلاقيه!).

13. عاش طويلاً وأمتد به العمر إلى ما بعد المائة عام وتوفي عام 1947، وتبدأ ملحمته الشعرية الطويلة بقوله (مشيت بالكدر شط يومين… الخ)، وابنه عبد الجليل (المتوفي عام 1969) شاعر مشهور أيضاً في أجدابيا ونواحيها.

14. هو: هاشم عبد الكريم الخطابيه المريمي، ولد وعاش في طبرق. شعره مشهور ويتردد على ألسنة الرواة في مناطق البطنان، وحياته الاجتماعية يطغي عليها جانب الفكاهة والظرف. توفي عام 1967.

15. في عددها الصادر يوم 28/3/1960.

16. د. أحمد إبراهيم الفقيه: بدايات القصة القصيرة. المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان. الطبعة الأولى. 1985. طرابلس.

17. أنشأها وأدارها الأستاذ مصطفى بن عامر في الفترة (1951-1953).

18. عمر فخري سالم المحيشي.

19. مجلة أصدرتها رابطة المعلمين، بإشراف الإستاذ محمد بريون.

20. قدّمه المذيع والقاص فرج بشير الشريف، كما قدّم المذيع ناصر عبد السميع برنامجاً آخر بعنوان (قصة ونغم) من إعداد عبد السلام شلوف، علاوة على قراءات قصصية في الإذاعة لرشاد الهوني وكامل عراب، وغيرها من برامج تتعلق بالقصة.

20. صدرت عام 1965 عن دار لبنان للطباعة والنشر. بيروت.

مقالات ذات علاقة

تاكفاريناس.. قائد المقاومة الأمازيغية

أسماء بن سعيد

قصة عيد الطفل في ليبيا

المشرف العام

سباق الجائزة الكبري طرابلس ما بين 1925 – 1940

المشرف العام

اترك تعليق