المقالة

إذاعة طرابلس وفيروز

إذاعة طرابلس

مرت عقود جاوزت الخمس على تأسيس الإذاعة الليبية (1957) دون التفاتة تكريمية لمبدعيها الأحياء، أو حتى تحية لأرواح من عطروا أريج أثيرها بتفانيهم واحتراقهم من أجل أن يكون لمجتمعنا الليبي الناهض آنذاك قناته التواصلية مع نُخبه المُتعلمة وأناسه البسطاء، والتي تنقل بصدق واقع حياتهم وتطرح مشاغلهم وقضاياهم، وتعلن عن رسالتها في توعيتهم وتثقيفهم، يومها شغف الليبيون، والليبيات بالتواصل معها، ما سمعته عن حكايات لعلاقات حميمية مع برامج ومسلسلات عمرت بها الاذاعة المسموعة آنذاك، يومها كانت شارة الافتتاح اللحن المميز (موسيقى) موكب النور للموسيقار محمد عبد الوهاب، ومن ابرز المشتغلين والذين احترفوا العمل بها ولسنين يوم أن كان موقع الاذاعة بـ (الصُمعَة الحمرا) الأساتذة الأجلاء: أحمد الحصايري، وكاظم نديم المُتعدد الاهتمامات الفنية والذي شجع وساند شقيقته نديمة بن موسى لتكون أول صوت أنثوي إذاعي يُسمع من داخل المحطة ولتقدم برنامجها ركن المرأة وإن لم تستمر لأكثر من سنة حيث أعقبتها مباشرة السيدة عويشة الخريف وفي ذات البرنامج، وعلى مصطفى المصراتي الذي أضطلع بحمل رسالته السياسية والأدبية والإعلامية منذ محطة الراديو العربي المحلي (1947م) فقد سردت لي الرائدة التربوية ورئيسة جمعية النهضة النسائية بطرابلس المرحومة صالحة ظافر المدني كيف شجعها وساعدها المصراتي لتُلقي بيانها عبر الأثير الذي دعت فيه فتيات المدينة لولوج المدارس ومعهد المعلمات، وكنت قد تقابلت مع الأستاذ يوسف الشريف قاص الصغار والكبار بمكتبته المُوجهة للطفل (بشارع السيدي)، وحملتُ سؤالي إليه توثيقا وتعريفا للاجيال التي لم تعاصرها، والذي اشار الى أهمية الحقبة الستينية من عمل الإذاعة الليبية روادها ورسالتها تجاه مستمعيها (أسماهم جيل 60)، وقد كان أحد صُنَاعِها، ما رسخ لوجهة محلية ذات خصوصية فاعلة، ولها مشروعها الذي تطرحه من خلال كوادرها المتعلمة والمُثقفة والتي حملت الهم الوطني والسؤال الاجتماعي من أجل إحداث التنمية والتغير بعد عقود من العذاب والمعاناة. أسوة بما كانت تطرحه وسائل الإعلام العربية آنذاك لمواطنيها، وقد كانت قافلة العطاء مُمثلة فيمن أوصاني بذكرهم سواء من تولوا إدارتها أو كتابها ومعدي برامجها وتمثيلياتها، والممثلين والمخرجين، ومحريري الإخبار فيها، وفنيي الصوت، ومنسقي البرامج والحفظ والأرشفة بالمكتبة الفنية، حينها انتقلت الى مبناها بشارع الزاوية (معهد جمال الدين الميلادي) وكان على رأس تلك الرموز الاعلامية الاذاعية: فؤاد الكعبازي، أحمد قنابة، بشير الغويل، محمد الصفاقسي، محمد سيالة، الشيخ الماعزي، عبداللطيف الشويرف، عبد القادر بوهروس، أحمد فريد، محمد المطماطي، الحاج محمد حقيق، الهادي راشد، عيسى بالخير، محمد المسلاتي، محمد قنيص، الهادي الدهماني، عبدالسلام دنف، عياد دحيم، أسماعيل تيتا، محمد المهدي، كامل عراب، محمد وريث، الخافي رحيم، سعيد السراج، الصادق صويد، عثمان بن لطيف، سليمان فارس، عبدو الطرابلسي، مصطفى الامير، عبدالرزاق بن نعسان، محمد الكور، أحمد الفنيش، خليفة التليسي، أمين مازن، علي فهمي خشيم، محمد المصراتي، حسن التركي، محمد الزوي، حسن عريبي، هاشم الهوني، .ولعل الحضور الانثوي المغامر بعد مغادرة نديمة للمحطة، والذي حملت مشعل دوامه السيدة عويشة الخريف (تاريخ تعينها بالإذاعة 15-5-58م) التي حكت لي ذات مساء، وقد أثار سؤالي عندها شجوناً وذكريات لم تنس حميميتها وأجواء الاخوة الصادقة، والحرص في العمل وعشقه حد السريان في الدم، فالإذاعة كانت أكثر من البيت والعائلة في اقترابها من النفوس التي رأت فيها مشروعها الوطني التوعوي، كانت خديجة الجهمي وحليمة الخضري، وعائدة ونادية الكبتي، وفاطمة الناجح، ونجية الطرابلسي، ونعيمة الديلاوي، وسعاد الحداد، وفاطمة عمر، جيلين متواصلين كُن المُعدات ومُقدمات البرامج وقارئات الأخبار وممثلاتٍ ومُخرجات، ما سبق ذكره يمثل هامش لبدايات اذاعة طرابلس ولنا أن نُسجل أيضا جهودا رائدة في محطة بنغازي المسموعة بذات الشغف والدأب، برامجا ومسلسلات من الواجب رصدها وتكريم رموزها وروادها.

فيروز

احتفاءاً بيوم ميلادها، ومرور نصف قرن على مشوارها الغنائي أقامت محطة مسموعة لبنانية (على الأف أم) لقاءً صباحياً عبر الأثير يجمع نخبة من مُحبي وعشاق السيدة فيروز من جميع أقطار الوطن العربي ليرسلوا عبر مُداخلاتهم تحاياهم ومباركاتهم لها، وهي الحلقة التي ستقدم كهدية العام للسيدة فيروز، كُنت الضيفة الليبية وقد خُيرت في شكل التحية التي سأقدمها، وقد خمنت أن تهنئتي المتواضعة ومديحي لصوتها ومدرستها الغنائية المميزة فقط ستكون تكرارا لما سيفعلهُ الضيوف العشاق العرب، لذلك كان خياري أن أُشير بإلمامة مُلخصة تُناسب الوقت الممنوح عن دور السيدة والأخوين رحباني في توظيف وإحياء التراث الشعبي اللبناني (الفلكلور الشامي عموما) فتجربة فيروز الغنائية (وسأعني النص المُستقى من بيئته واللحن بالطبع) حملت إخلاصا للتراث من خلال تقديمه بطريقه تجمع بين الحفاظ على أصالته كنص (نموذجها غناء الهدهده الخاص بالأطفال: يلا تنام يالا تنام لذبحلا جوز الحمام… طير يا حمام لا تصدق بضحك ع ريما تتنام) وبين التطوير اللحني المُعزز والمُستفيد من إمكانات صوتها الحاني الشجي، وفي مجال التوظيف التراثي فأعتقد أنه أتخذ ثلاثة مناحٍ، أولها: استحضار فنون الأداء الشعبية كالموال والميجانا والعتابا والروزانا… كاستهلال يؤدي وظيفته في الأغنية، وليس دخيلا مصطنعا، وثانيها: التراكيب اللحنية المُستحدثة ذات المرجعية التراثية المُتعارف عليها شعبيا، وفي ظني أنه نوع من التوظيف يشابه ما مرت به الأغنية الليبية أيضا، إذ يتم الإعلان عن ذلك بالقول أنه لحن شعبي متوارث، وثالثُها: إدخال الصيغ اللغوية المتداولة شعبيا كمقاطع مُضافة الى النص المُؤلف حديثا، وهناك أكثر من إشارة في بعض الدراسات التي عنت بالمدرسة الرحبانية، وبعض شعراء الأغنية اللذين غنت لهم السيدة فيروز. كما يُحسب لتجربتها التي كانت مُفارقة في تاريخ الأغنية العربية حين انشغلت في المرحلة الخمسينية بالحب وعذاباته بين الطرفين، فكلاهما يشكو غيابا وهجرا وغيرة مما أظهر تكرارا بدا فجا وساذجا مُبالغا فيه في بعض مما استغرقته الفكرة والصياغة اللحنية أنذاك، فكانت تجربتها(الغنائية والمسرحية) تستحضر الأماكن الشعبية الحميمة وأُناسها: الضيعة، والطاحونة والناطورة، والقرية،والنبع، وتفاصيل حياة وليالي سهر الرعاة، والمزارعين، والصيادين، والبياعين، وبالإمكان إضافة أن صوت فيروز القوي المُندفع (في بعض حالاتها التي يتطلبها السياق الغنائي) كان ناقلا وواصفا بحيويته لسلوك وقيم مجتمع يرى في النخوة والعزة والشهامة، والشرف، وحب الوطن والدفاع عنه، والتضحية والتمسك بكل ما هو نبيل مسوغا لحياة حرة تنأى عن التزلف والابتذال، وماديات الحياة (خبطت قدمكن ع الأرض هدارة انتو الأحبة وألكون الصدارة، وغيرها كثير).

وقد قدمت الكلمات التراثية التي قاربها صوتها واصفا مشهدا، أو حدوثة درامية تنقل للسامع أجواء عايشها أهلها لعلها اختفت الآن، لتصبح بعد مرور عقود من الزمن تسجيلا فنيا توثيقيا لجماليات جغرافيا المكان، وعنصره الإنساني، وكذلك المهن والوظائف الحياتية اليومية ومُستعملاتها التي تشابه كثيرا من ملامح وصفات بلاد العرب بأجمعهم. وأضفت في المُداخلة المتواضعة أن فيروز تحولت بحب الملايين المُشترك لصوتها، ولما حملتهُ – في مضمون كلماتها – من قضايا إنسانية الى حالة فنية وهي من صنعت تاريخها بمثابرة مُخلصة وبجهد الرحابنة وشعراء تلك المرحلة، مُقدسة لرسالة حملتها بصوتها الحالم المأمول ! الذي كان سفيرا للبراءة، والمحبة، والبساطة، والتسامح، وأعلنتُ في المداخلة أن صوتها الطربي كثيرا ما منحني دفقا من التفاؤل والأمل، والأماني الخيرة، لذلك كانت مُفتتح ما تطرب له أذني في أول نهاراتي، وإن كنت لا أميل لفكرة تعين مواقيت بعينها للاستماع إليها، وقد كانت محطات عربية (مسموعة ومرئية) ولا زالت تستهل بثها صباحا بأغانيها وهذا حسن إذ يصبح للصباح دلالاته الجميلة رفقة صوتها، لكنها تودعها فيما تبقى من بث برامجي يصلُ الليل بالنهار!، رغم أن الرحلة الغنائية المتنوعة للسيدة فيروز كانت ثرية وحافلة بما يناسب الأيام بنهارها وليلها وفصولها الأربعة! الرحلة التي شهدت نتاجا ما يقارب الألفي أغنية، وموشحات ومسرحيات غنائية، ثم انقطاعا أحياه فيما بعد أبنها الفنان زياد الرحباني ثم عادت للانقطاع، باستثناء بعض الحفلات التي عادت فيها الى خزانتها الغنائية الماضية والتي ظلت لعقود تدور في فلكها.

السيدة فيروز سيظل صدى تغريدها يتردد في أسماع عشاقها من أجيال مُختلفة، كان الوقت المُخصص لي كمُشاركة من ليبيا عشر دقائق وقد حاولتُ استثمارها، لكنني فوجئت بالمذيعة تمطرني بالأسئلة لتمنحني وقتا إضافيا من قبيل: هل هناك مستمعون لفيروز عندكم؟ كم نصيبها من البث الإذاعي لديكم؟ فيروز غنت في عواصم عربية مختلفة لماذا لم تتم دعوتها للغناء في بلدكم؟ ماذا تُحملين أثيرنا من رسالة من ليبيا إليها؟ وكان أن شكرتُها على الإستضافة الرحبة، وأجبت حسب معرفتي لما شغلها عنا كمستمعين مجهولين من بلد اسمه ليبيا!، وختمتُ: لها من ليبيا كُل الحُب وإن نأتْ عنها.

مقالات ذات علاقة

الأدب بين اشتراطات المذهب وافتراضات الذوق

المشرف العام

رسائل الانتزانية

علي بوخريص

مَلْحَمَةُ الْإِنْسَان

علي بوخريص

اترك تعليق