المقالة

أوان الرواية

صفحة: الكاتب يوسف القويري- من مفكرة رجل لم يولد

“التخطيط لرواية كالتخطيط لمدينة كاملة، بعلاقاتها الاجتماعية، وأزماتها، ومساكنها، وأعماق أشخاصها. والرواية العظيمة هي التي تخطط لعالم كامل، بحيث أن سكان المدن المختلفة يحسون – عندما يقرأون – بشيء من مدينتهم في سطور القصة. ولكن متى يجسر المرء على البدء في هذا العمل ؟! “

يقول جورج دوهاميل عضو الأكاديمية الفرنسية والناقد المعروف – إن سن الثلاثين قد تكون هي السن الملائمة لبدء كتابة الروايات.
وهو محقٍ في هذا . تماماً. 
فقبل سن الثلاثين لا يكون متوفراً للإنسان ذلك الحد الأدنى من التجارب والخبرات والصدمات التي تساهم في صقل الشخصية وإنضاجها وتجعل صاحبها قادراً على رؤية الحياة رؤية عميقة، فيها بشائر التأني الذي يميز فترات لاحقة من العمر.
والتحديد الزمني عند دوهاميل تحديد تقريبي، وهو – بطبيعة الحال – يستثني من هذه القاعدة بعض الحالات النادرة، معتمداً في ذلك على استقراء تاريخ مشاهير الكتاب في العالم. 
فبالإضافة إلى أن سن الثلاثين هي السن التي يودع فيها الإنسان – في الغالب – ذيول مرحلة المراهقة، ويستقبل بدايات النضج الحقيقي، ويجد بين يديه حصاداً مناسباً من التجارب، بالإضافة إلى ذلك كله فإنه – أيضاً – يكون قد تمرس عبر محاولات أدبية كثيرة وأكتسب بفضل المثابرة والإعداد المستمر، والتحصيل، والإخفاق والنجاح في صناعة النثر الفني، يكون قد أكتسب بفضل ذلك بعض الخصائص الضرورية التي تؤهله إلى لإقتحام أرحاب العمل الروائي.
فالعمل الروائي إذن يحتاج إلى فلسفة، وخبرة، وقدر معين من السيطرة على اللغة. ونحن لا نعني باللغة – هنا – النحو والصرف وما شابه ذلك، إنما نعنيها بمدلولها الشامل، نعني بها الأسلوب، وفن السرد والقدرة الخاصة على الصياغة والإبداع.
وقد يوحي هذا الكلام بتوجيه مختلف. فما على المرء إلا أن ينتظر حتى يصل إلى سن الثلاثين، وبعدئذٍ يجد أن مقدرته الأدبية قد تحولت تحولاً غامضاً، فأصبح يكتب بيسر، وبعمق، لمجرد أنه وصل إلى الثلاثين !
من الصعب في واقع الأمر أن نحدد السن التي ينضج فيها الكاتب، والكاتب الروائي بوجه خاص، ولكننا نقول استطراداً لفكرة دوهاميل أن سن الثلاثين هي السن الملائمة للبداية.
وقد لا تأتي هذه البداية في الثلاثين، وقد تأتي قبلها، وإن كان الاحتمال الأخير نادراً جداً.
و”سرفانتز” الروائي العالمي الذائع الصيت مثال للبداية المتأخرة أو للنضج المتاخر. فبعد سن الثلاثين استمر “سرفانتز” يكتب قصصاً ساذجة، سخيفة، لا يقرأها أحد، وأستمر يتجرع الفشل والمرض والفقر إلى أن بلغ سن الخمسين.
وفي هذه السن المتأخرة، بعد عمر طويل من الغباء والإخفاق، أنتج “سرفانتز” واحدة من أشهر وأخلد الروايات في التاريخ، رواية “دون كيشوت” التي حوت عصراً بأكمله، وسخرت – بذكاء ممتع – سخرية مرة من النبلاء والفرسان والإقطاعيين !
ومرة أخرى نقول إن هذا الكلام قد يفهم منه بأن هناك نقطة معينة – بعد انقضاء العقد الثالث من عمر الإنسان – تلتمع فيها الموهبة الأدبية التماعاً مذهلاً، ويتلقى فيها الأديب من مصدر مجهول شرارة العبقرية المبدعة.
علينا أن نستبعد من البداية هذه الفكرة الخاطئة والشائعة في الوقت نفسه، علينا أن نحذف فكرة الإلهام أو الوحي وما شابه ذلك من تعابير غامضة. فالعبقرية هي ثمرة جهد ودأب وعرق كثير، وهي لا تأتي من خارج حياة الفنان، من وادي “عبقر” الاسطوري بل من متناقضات الحياة الأدبية ذاتها، ومن كدحه المستمر ضد المعوقات الاجتماعية والشخصية التي تنشأ أمامه والتي تدعوه وتستنفره لمقاومتها.
وبديهي أن الاستعداد الأولي لأزم، أعني ملكة التعبير أو الموهبة الفنية من أي نوع – وهي في جوهرها درجة من درجات الإحساس المرهف بالعالم والذات – ولكن هذه الحساسية الأولية أو الموهبة لكي تستقر في صيغة معينة أو في قالب معين، لكي تتجسد ونراها ونشعر بأثرها وتمتلئ عيوننا بأشعاعها، فلا بد لها من طريق طويل شاق من الممارسة والنضال، فالموهبة لن تنمو قطعاً، ولن تفيد صاحبها، ولن تفيد الآخرين، ما لم تتغذ بعمل متصل وعنيد.
ونحن ندرك هذه الأفكار إدراكاً أدق من خلال حياة الكتاب الكبار، ومن الطريقة التي يكتبون بها. فقبل أن يبدع “أنطون تشيكوف” قصصه القصيرة التي تركت طابعها الخااص على اكثر من ثلاثة أجيال من القصاصين في مختلف ارجاء العالم، قبل أن ينتج “تشيكوف” ذلك الطبيب المصدور المهذب الذي أخضع نفسه لبرنامج عمل مرهق، قبل أن يمنح “تشيكوف” للأدب الإنساني روائعه ظل لسنوات طويلة يكتب قصصاً فكاهية وينشرها في المجلات تباعاً، إلى أن أكتشف الإتجاه الصحيح لقدرته، فعف على هذه القدرة ينميها ويوسع آفاقها.
أما الروائي المصري “نجيب محفوظ” فقد بدأ حياته كاتب مقالات فلسفية أكاديمية في مطبوعة (المجلة الجديدة) التي كان يصدرها الأستاذ “سلامة موسى” في اوائل هذا القرن، ولم تكن هذه المقالات – التي لخص فيها “نجيب محفوظ” ما تلقاه في كلية الآداب من معلومات – تبشر بالروائي القادم، لم تكن تبشر به إلا من حيث أنها عبّرت عن بعض تساؤلاته الفكرية التي تبلورت بعدئذٍ في أعماله القصصية. 
مزق نجيب محفوظ روايات كثيرة قبل أن يُقدم على النشر، وكان الأستاذ سلامة موسى يتابع ويراقب بعين الناقد العميق المتذوق تلك الإرهاصات المبكرة للموهبة الروائية عند نجيب محفوظ، وعد أن مزق الأديب كثيراً من إنتاجه الأول وعند نقطة معينة، قال الناقد الموجه للأديب الفنان: “هذه رواية جيدة، هذا أول عمل حقيقي تكتبه”. وبعدها لم يمزق نجيب محفوظ عملاً كاملاً له، وإن كان يعرف كبقية الأدباء كيف يرمي فصلاً كاملاً مرة ومرتين وأكثر في سلة المهملات ليعيد صياغته من جديد ! 
لحظة الإلهام أو الوحي .. وهم !
ولكن “جون شتاينيك” الكاتب الأمريكي المعاصر يقول – وهو الفائز بجائزة نوبل العالمية للآداب والفنان المتمكن من مادته – أنه يجلس أحياناً ست ساعات كاملة على مكتبه، ثم يجد في النهاية أنه لم ينتج شيئاً !
ما قاله “شتاسنيك” يقوله كثيرون من أعلام الشرق والغرب، فهل ثمة لحظات للإلهام حقاً ؟!
ثمة لحظات من المعاناة الباطيني لفكرة أو تجربة. وهذه اللحظات تمتص قدرة الفنان العصبية والنفسية بكاملها. فهي تحبس وتمنع الكاتب – في الوقت نفسه – من الإسترسال شبه العفوي الذي تتسم به لحظات الصفاء، وتضعه في موقف لا يختلف عن موقف أي مخلوق آخر منقطع الصلة بشؤون العمل الأدبي. وحيئذٍ لا يكون بمقدور الأديب أن يكتب ويخلق، ويحرك الكلمات الساكنة البليدة وينفث فيها الجمال والقوة..
إن المعاناة وجه من وجوه الكتابة الأدبية، وهي قرينة لفترات الإحتباس والعسر في استدعاء الكلمات والصور والأفكار. وبالتالي فإن لحظات الصفاء والتدفق الفني – التي هي بالضبط ضمن صفات الكاتب الأساسية – ناجمة في الحقيقة عن لحظات المعاناة والإحتباس.
وبذلك يكون أمر (الإلهام) واضحاً، وليس في حاجة إلى مبرر من خارج الحياة النفسية والاجتماعية للكاتب.
إن الفكرة المحورية هنا هي إبراز الإرتباط بين النضج الاجتماعي للأديب – الذي يحدده “دوهاميل” بسن الثلاثين – وبين النضج الأدبي.
فالرواية لا تعني مجرد السرد، بل هي خبرة إنسانية مركزة، وعمل تجميعي كبير، فيه عناصر الهندسة والبناء والمتابعة المضنية لنمو الشخصيات والأحداث.
الرواية نفس طويل، صبور، يحتوي خبرة. 
وحتى الحكايات البسيطة التي تتداولها الأجيال وتحكيها العجائز أمام المواقد في الشتاء، والتي يصغي لها الأطفال بشغف إنما جاءت كثمرة من ثمار الوعي بالأحوال، ونحن دائماً نجد في أكثر هذه الحكايات سذاجة لمسة الحكمة والترشيد والتوجيه.

عن كتاب الكلمات التي تقاتل

مقالات ذات علاقة

الخطر الظاهر

محمد دربي

الموسيقا ضرورة شعرية

عادل بشير الصاري

أين ليبيا التي عرفت؟ (17)

المشرف العام

اترك تعليق