من أعمال التشكيلي محمد بن لامين
قصة

أنا وشيخــــتي

 

لماذا ارتجف كلما حاولت الاقتراب من المصحف؟ ولمَ تلفني تلك السحابة القاتمة من النفور والاكتئاب؟ أحدهم قال لي أن هذه أعراض مس شيطانيّ، لالا.. رحماك يا الله ليس للشيطان سبيل إلى قلبي، أظنني امرأة صالحة، وكان يحيط بي فيض من النور عجباً كيف تراه اختفى الآن.. وكان لي قلب عامر بالسكينة أراه قد تكلّس الآن.. وكنت أقرأ القرآن بحب… فأين ذلك الحب الآن؟

كان ذلك في زمن سالف من العمر.. في خلوة تحفيظ النساء.. حيث تكيد النساء للنساء.. كنا نتحلّق في نصف دائرة كبيرة، وتشغل المعلمة نصف الدائرة الآخر، وكنت أشعر وقتئذٍ أن الدائرة تتمدد في شكل هالة كبيرة من النور. يرتجف صوتي وأنا أتلو بحب ودفء: “هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا،…..”، تضم المعلمة أصابعها الخمسة بودٍ مشيرة لي بمزيد من التأني في التلاوة، فأستلهم ذلك الجرس الموسيقى من أطوال المد، ستة حركات .. وأربعة .. واثنتان، وحالات السكون والإقلاب، والإخفاء والإدغام.. تنتظم الأوزان على إيقاع عروضي متناغم فتأتي التلاوة باذخة تتسرب في عروقي فأتوحد معها.. تتحرر روحي فتشدو مسبّحة في محراب الإله .. تستفيق جوارحي بحب ودهشة.. وتطرب نفسي فيخشع قلبي وتنهمر سابحة دموعي.

يا الله .. هل تراني نسيت الخشوع، وأن ملذات الدنيا أفقدني عذرية قلبي، وهل مذاق التلاوة يتبدد في وحشة الرغبات، وهل روعة الإحساس بالإيمان قد تتوه في سجون الجسد، وكيف كانت كل آية تستحضر ظلال السكينة ويستفيق من ورائها رَوْح من الطمأنينة!.

جاءت معلمة جديدة.. قالت أنها درست في المنارة الإسلامية، كررت ذلك مراراً، وافتتحت درسها بحصة الرسم القرآني، بدأت تملي علينا بعض السور لنكتبها في دفاترنا.. ..كانت تتجول بين الطالبات لمتابعتهن، وقفت بجواري وابتلعتْ سطوري بنظرة فهمت مغزاها فابتسمت لأطمئنها بأنني تلميذة مطيعة وليس في نيتي أن أكسر غرورها، لكنها لم تطمئن، اتضح ذلك من نظرتها الحادة، ولا أعرف لماذا قلبت ظهر دفتري وقرأت اسمي!

كانت في كل يوم تتصفح دفتري، تبحث.. تقلّب.. وتشهر القلم الأحمر على سطوري، تحارُ أين تسدد رميتها، حين لا تجد أي خطأٍ، وفي كل مرة أشعر بالمرارة حينما تسلمني أيّاه دون كلمة شكر واحدة، في حين تخضّب دفاتر الرفيقات بكلمات الشكر والإطراء.

نشأت بيننا علاقة من العداء الأنثويّ، كانت تباغتني بامتحانات مفاجئة، وأباغتها بأخطائها النحوية، وذات يوم فكرت أن أليّن ما بيننا من فتور، فسألتها: كيف تجدينني شيختي؟ أشاحت بوجهها دون أن تجيبني.

أطأت رأسي إلى الأرض تجنباً للنظرات، كان المصحف مفتوحاً أمامي فانبجست دموع ساخنة على صفحاته، وكان كل همي أن أتصالح مع هذا الكتاب بكل حب، أن أتنشق عبيره برفق وسماحة في بيئة مليئة بالطمأنينة، أن يساعدني أحدهم ويأخذ بيدي لربط عُرى الثقة مع الخالق، عرىً لا تنفصم ودون أن تنكسر مجاديفي…جاء دوري في القراءة، تربعت في حضرتها، خفيضة الرأس وأنا أنصهر مع التلاوة، أرقب الإعجاز في كل حرف، وأرتشف موسيقى في كل آية، أستلهم صورة الضحى الرائق والليل الساجي والحنان المتدفق: “والضحى، والليل إذا سجى، ما ودعك ربك وما قلى”. وأرتجف مأخوذة بالموسيقى السريعة الحركة، القصيرة الموجة: «يوم ترجف الراجفة، تتبعها الرادفة”، ثم تتغير الموجة لتصبح بطيئة الحركة، متوسطة الطول، «اذهب إلى فرعون إنه طغى” وكنت أقسمها على وزن عروضي تتراص في إبداع رباني علامات الساكن والمتحرك، فأقعى في بهجتي، ونشوتي وذهولي، واستسلم لعناق طويل مع الذات.

لم أسمع منها جملة (فتح الله عليك) أسوة ببقية الطالبات، لم أسمع منها كلمة إطراء واحدة طيلة فترة تدريسها لي.. في الأيام الموالية، كنت أذهب وأنا أجرجر أذيال الكآبة، أختنق وأنا أجلس في حلقة التحفيظ، لم يعد يربطني بها تلك الهالة العظيمة من النور، تلك المتعة التي أرتشفها وأنا أتلو. لم أحفظ بعدها حرفاً واحداً.

مقالات ذات علاقة

هــــذيان

عبدالواحد حركات

لوز وتفاح

المشرف العام

ثلاثُ عجائز من مدينتي

المشرف العام

اترك تعليق