دراسات

أماكنٌ وأعلامٌ في السيرذاتية الشعرية للبغدادي(*)

الشاعر د.عبدالمولى البغدادي
الصورة: عن بوابة الوسط

مقدمة:

برز أدب “السيرة الذاتية” كمصطلح فني يشير إلى الجنس الأدبي السردي الذي يتناول أبرز محطات الحياة ويوثق بعض تفاصيل مسيرتها بأسلوب يختلف كلياً عن فن كتابة اليوميات والمذكرات الشخصية، والذكريات الخاصة. وهو يتميز بلغته الأدبية وسمو كلماتها وعباراتها عن السطحية والتقريرية والمباشرة والرقمية التأريخية، وانحيازها إلى جمالية المفردة اللغوية ووضوح الجملة والعبارة.

وإن ظهر جنس “السيرة الذاتية” وحقق انتشاراً واسعاً في الآداب العربية والعالمية كافة سواء بعناوين إصداراته المستقلة الصريحة أو من خلال مقالات خاصة أو روايات أدبية، فقد ظل هذا الجنس الأدبي مقتصراً على السرد النثري دون أن يتمثل في القصيدة الشعرية ككيان مستقل تعبر عنه وتشترك معه من خلال عناوينها أو بناء كيان هويتها الشعرية، بل ظل ظهوره بها ضمنياً، وأحياناً في بعض ثنايا أبياتها التي يختارها الشاعر ويوظفها لتناول جوانب من سيرته كالفخر والحماسة والوصف والهجاء والرثاء وغيرها من الأغراض الشعرية الأخرى.

ولا شك فإن انتاج وانتشار السير الذاتية في الوقت الحالي عبر القصائد الشعرية، والذي تطور وصار جنساً جديداً يعرف ب(القصيدة السيرذاتية)(1) قد اكتسب سماتِه وخصائصَه الفنية من خلال التطور البنيوي والتحديث الفني للأجناس الأبداعية كافة، والتلاحم والتداخل بين الشعر والنثر في فضاء أدبي مشترك يجمعهما، والذي يمثل مكسباً وإثراء إبداعياً للغة العربية وأساليب رسالتها النبيلة وتطور وتعدد أجناسها الأدبية مثلما ظهرت القصيدة المكثفة في فترة سابقة وأصبحت كياناً إبداعياً مستقلاً تفاوتت مسمياته بين “الومضة” و”قصيدة البيت الواحد” وغيرها من المسميات الآخرى.

إن قصيدة السيرذاتية توطن أنماطاً وأعرافًا وتقاليد إبداعية جديدة في موضوع النص الشعري، وذلك من خلال استعارتها تقنيات السردي النثري وبعثه في روح شعرية خلابة، وتوظيف السردي المكتوب لإظهاره في شكل شعري يجذر حضوره بكل مهنية متقنة تستوطن الفكر والوجدان.

بعضُ خصائصِ النص الشعري عند الدكتور عبدالمولى البغدادي:

حين أصدر الدكتور الراحل خليفة التليسي في منتصف ستينيات القرن العشرين المنصرم كتابه (رفيق شاعر الوطن)(2) فجّر سؤاله الغاضب المثير للجدل الشعري: هل لدينا شعراء؟ لم يكن شاعرنا عبدالمولى البغدادي قد برز حينها على الساحة الشعرية صوتاً تعبيرياً ناضجاً كما هو عليه الأن، وإلا لأعاد الراحل التليسي صياغة ذاك السؤال الكبير الذي لازال مدوياً ومحركاً أساسياً لمعظم الدراسات النقدية الشعرية في ليبيا.

فالشاعر عبدالمولى البغدادي يعد أحد الأصوات الشعرية الكلاسيكية المعروفةِ بقوةِ وعمقِ نصِّهِ في المشهد الشعري الليبي، والمحافظِ على تميزه الإبداعي من خلال شكله التقليدي، المتسم بالوفاء للعروض الخليلية، والتطور الموضوعي المواكب للشأن السياسي العربي القومي والوطني الليبي العام، والمصاحب لمتغيرات الحياة الاجتماعية كافةً، والفردية الشخصية المتعلقة بالشاعر ذاته على وجه الخصوص. ولعل أبرز ما يؤكد هذا المذهب هو قصيدته الحديثة المعنونة (من وحي الثمانين) حين اختار أن ينظمها بمناسبة ذكرى ميلاده وبلوغه مشارف سن الثمانين، أطال الله عمره، وجعلها مناسبة أدبية وأكاديمية، ودعوة للبحاث والنقاد لدراسة نصوصه الشعرية كافة.

ومن خصائص القصيدة الشعرية البغدادية، كما أحبُّ أن أطلق عليها، أيضاً تميزها بالنفس الشعري الطويل المحافظ على مضمون القصيدة، وتماسك كيانها البنيوي دون الإخلال بترابط موضوعها وإيقاع قافيتها ووزنها الموسيقي وبحرها العروضي، والذي لمسناه في معظم نصوص الشاعر عبدالمولى البغدادي، فمثلاً قصيدته:

مولاي عبدُك بين اليأسِ والأملِ يا خيرَ مولىَ لعبدٍ حائرِ السُّبُلِ

تقع في (230) مائتين وثلاثين بيتاً ضمتها أربعة مقاطع موحدة القافية والوزن. وكذلك قصيدته:

واخليلاه !! أين مني خليلي؟ غاب عن ناظريّ أغلى خليلِ

التي أهداها إلى روح أستاذه العالم الجليل والمربي الفاضل الشاعر عبدالسلام محمد خليل رحمه الله جاءت في (125) مائة وخمسة وعشرين بيتاً. وأيضاً قصيدته (منْ عليه الرهانُ بعدَ العراق؟) والتي جاءت في (80) ثمانين بيتاً، ويستهلها بالسؤال المزلزل المفزع الموجه للحكام والشعوب العربية إثر قصف واحتلال العراق الشقيق سنة 2003م قائلاً:

أزِفَ السبقُ يا خيولَ السباقْ مَنْ عليهِ الرهانُ بعدَ العراقْ؟

وكل هذه القصائد نشرت بشكل منفرد في بعض الصحف والمطبوعات المختلفة ويا حبذا لو يتضمنها ديوان جامع مشترك يمكن محبي الشعر والبحاث والمهتمين من الإطلاع عليها ودراستها.

أما قصائده الطوال المنشورة في ديوانه الوحيد (على جناح نورس)(3) فكانت على النحو التالي:

  • (الأحساسُ بالفجيعة من خلال محنة الغربة)(4) وتقع في (111) مائة وأحد عشر بيتاً.
  • (القصيدةُ المدخل)(5) وتقع في (107) مائة وسبعة أبيات.
  • (بكائياتٌ على مقامِ العشقِ النزاري)(6) وتقع في (94) أربعة وتسعين بيتاً.
  • (حوارٌ مع الشابي حول إرادةِ الحياة)(7) وتقع في (92) إثنين وتسعين بيتاً.
  • (الإبحارُ إلى المجهول)(8) وتقع في (86) ست وثمانين بيتاً.
  • (أشواقٌ عربيةٌ مهاجرةٌ إلى الحبشة)(9) وتقع في (81) واحد وثمانين بيتاً.

وهذا السرد هو على سبيل الاستدلال والبرهان على ما ذكرته آنفاً وليس الحصر الكلي لقصائد الشاعر عبدالمولى البغدادي وعدد أبياتها.

ولكن يمكن القول أنه من خلال متابعة مدونة الشعر الليبي قديمه وحديثه، لا أظن أن هناك شاعراً ليبياً يماثل أو يظاهي الدكتور عبدالمولى البغدادي في طول قصائده الشعرية العروضية وعدد أبياتها أو يتفوق عليه سوى الشاعر مصطفى محمد العربي الذي تضمن ديوانه الوحيد الصادر بعنوان (الورد الأبيض)(10) قصيدتين طويلتين جداً هما قصيدة (قصتي بين السماء والأرض)(11) وعدد أبياتها (539) خمسمائة وتسع وثلاثين بيتاً، وكذلك قصيدته (رحيلٌ من الضياع إلى الغربة)(12) التي بلغ عدد أبياتها (342) ثلاثمائة واثنين وأربعين بيتاً حتى وإن تعددت قوافي هاتين القصيدتين وتبدلت في أكثر من مرة، عكس الشاعر الدكتور عبدالمولى البغدادي الذي ظل محافظاً على قافية واحدة في جميع نصوص قصائده الشعرية الطويلة.

ولا شك فإن العبرة ليست بكثرة عدد الأبيات وطول القصيدة بل بموضوعية وبلاغة النص الشعري، وتماسك وحدته وبنيانه الفني، ووضوح لغته التي يؤدي بها رسالته الأدبية المرجوة، فكثيرٌ من النصوص توغل في الرمزية والغموض وغرابة المفردة اللغوية، والتفكك البنيوي وركاكة وسطحية التعبير وغموض الصورة البلاغية، وبالتالي تفقد سبيل وصولها إلى المتلقي، وهذا كله عكس ما جاءت عليه قصائد الشاعر الدكتور عبدالمولى البغدادي التي لا تغادر المتلقي حتى بعد الانتهاء من قراءتها، بل يظل صدى إيقاعها وعباراتها يتفاعل في فكره ووجدانه، لما لها من قوة التأثير المستمد من بلاغة المفردة اللغوية وسلاستها وموسيقى وإيقاعات أبياتها المتراقصة.

قراءة في قصيدة (منْ وحيِّ الثمانِّين):

تجاوزت قصيدة الشاعر الدكتور عبدالمولى البغدادي (من وحي الثمانين) كل قصائده السابقة في عدد أبياتها وطولها، وبالتالي تستحق أن يطلق عليها القصيدة المعلقة أو الملحمة أو الجدارية البغدادية، وهو بهذه القصيدة يسجل ريادته في مدونة الشعر الليبي بجدارة لبلوغ أبياتها (408) أربعمائةٍ وثمانيةَ أبياتٍ، تتابع بقافية ثابتة وهي النونية المكسورة على بحر الوسيط، والتي يمكن تقسيمها إلى عدة عناوين رئيسية وفرعية كالتالي:

أولاً: المقدمة، وتقع في تسعة عشرة بيتاً (1-19)،

ثانياً: العهود الخمسة، وتشتمل على التفرعات التالية:

  1. طفولة بائسة تحت الاحتلال الايطالي، وتقع في عشرين بيتاً (20-39)،
  2. تحت الإدارة البريطانية، وتقع في إحدى عشرة بيتاً (40-50)،
  3. العهد الملكي، وتقع في ستة عشرة بيتاً (51-66)،
  4. العهد الجمهوري، وتقع في ثمانية وعشرين بيتاً(67-94)،
  5. عهد الحكومات المتصارعة، وتقع في واحدٍ وخمسين بيتاً (95-145).

ثالثاً: أسئلة وحوار، وتقع في ستة وثمانين بيتاً (146-234)،

رابعاً: ذكرياتٌ، وتقع في واحدٍ وخمسين بيتاً (235-286)،

خامساً: مناشدات، وتقع في ثلاثة وعشرين أبيات (287-310)،

سادساً: مع الشعر، وتقع في تسعة وثلاثين بيتاً (311-350)،

سابعاً: إطلالةٌ من شرفة الثمانين، وتقع في أربعة وعشرين بيتاً (351-375)،

ثامناً: الخاتمة، وتقع في اثنين وعشرين بيتاً (376-398)،

تاسعاً: لوعةٌ ووداع، وتقع في عشرة أبيات (399-408).

ولابد من التأكيد على أن قراءة النص الشعري ودراسته وتحليله ليست بالأمر المستجد حديثاً أو المستحدث العصري في قضايا الأدب العربي ونقوده الفنية، بل يؤكد التاريخ أنها قضية قديمة تعود إلى بواكير النقد العربي وأساليبه وأدواته التقليدية. ولعل أبرز مثال على ذلك أن شاعر العرب أبا الطيب المتنبي قد اعترف مبكراً بتفاوت فهم قصائده والاختلاف في تحليلها وتفسيرها حين قال:

أنامُ ملءَ جُفُوني عن شَواردِها وَيَسْهرُ الخلقُ جرَّاها ويختَصِمُ(13)

وهذا تصريح جليٌّ واضحٌ يؤكد أن فهم واستيعاب النص الشعري قد يختلف بين قاريء وآخر وفق مستوى ثقافة وبيئة كل واحد منهما وكذلك ظروف عصره وزمانه. كما أن تعدد التفسيرات والخصومات الأدبية والفكرية حول النص تكسبه إثراء وحواراً متواصلاً يمد حياته عبر أجيال عديدة.

وفي العصر الحديث لم يعد قاريء النص الشعري يكتفي بدوره كمتلقي يتقبل أو يستلم ما يعرضه عليه الشاعر فحسب، ليظل بذلك مجرد قاريء استهلاكي تقليدي نمطي كما يصفه بعض النقاد، بل صار القاريء يسهم بفاعلية في الغوص في ثنايا النص الشعري وكشف بعض خباياه، وتقديم قراءات نقدية تستمد ملاحظاتها من انطباعاته وأحاسيسه المتأثرة بالنص، وتشريح بعض جوانبه وإضافة العديد مما يحتاجه من توضيحات واستكمالات لكي يصبح أكثر فهماً وقبولاً لدى الآخرين. وبلا شك فإن هذا التطور يقدم الكثير من الإسهامات الجمالية والآراء التعددية الفكرية في التعاطي مع مضمون النص الشعري وأبعاده، كما يحفز القاريء لكي يتحول من مجرد شاهد على ولادته وظهوره إلى شريكٍ أو مساهمٍ في إنتاجه وتفسيراته وخصوماته الأدبية.

وبدايةً من عنوان القصيدة الذي جاء مركباً في ثلاثة كلمات (من وحيّ الثمانين) فهو بلا شك ينطوي على أبعاد متعددة تتداخل فيها التأثيرات الإيحائية النفسية العمرية والانفعالية والمكانية والزمنية والإنسانية، والأبعاد الدلالية لعناصر ومكونات النص الشعري الإبداعي كافةً، ولذلك جاء موحياً بإعلان الشاعر واعترافه الصريح بأن قصيدته هي بوحٌ ملهم اقتبسه من تطلعه لرحلة عمرية قادمة باتجاه عقده الثمانيني، وهو يحاول في هذه القصيدة، وقبل الولوج إلى تلك المرحلة العمرية الثمانينية، التوقف والالتفات إلى الوراء مستذكراً بعض محطاته السابقة وما تحمله من ذكريات وأمكنة وشخصيات وأعلام لازالت بصماتها حاضرة في ذهنه، وربما سترحل معه في رحلته المستقبلية. كما يمكن تفسير العنوان بشكل آخر وهو أن القصيدة تعبر وتنطلق من عقد الثمانين ذاته، لتقدم نفحات وجدانية منه، وبعض سيرة الشاعر خلاله، بينما الشاعر في حقيقة الأمر لم يصل عمره الثمانين بعد، فهو من مواليد 1938 وبالتالي فقد بلغ تسعة وسبعين عاماً فقط وهو الآن على مشارف الثمانين. وهذا التفاوت في التأويل والإيحاء الذي يصدره العنوان البسيط في تركيبته ويبعثه في وجدان المتلقي، يلقى الكثير من القبول لدى المتلقي ويؤسس إغراءً ورغبة قوية، ودرجة شوق كبيرة لسبر عوالم قصيدة السيرذاتية الشعرية البغدادية والولوج إلى مغامرات اكتشافها انطلاقاً من عنوانها.

ويتبين من هذه القصيدة، كما في غيرها، أن الشاعر يقتبس عدداً من أبيات أشعاره وقصائده القديمة السابقة ويضمنها فيها، ليؤكد بها على ثبات المباديء الشعرية التي ينادي بها ويتبناها طوال مسيرته الشعرية، والترابط المتين بين نصوصه وقصائده كافة، قديمها وحديثها، وأن رسالة شعره تظل تتأسس على قيم الإنتماء إلى الوطن وفيوض المحبة الوجدانية، والانحياز للتعاليم الإسلامية السمحاء، وصور الفن والجمال، ونواحي التربية النبيلة وهذا كله يتجسد في مفهوم الشعر عند الشاعر عبدالمولى البغدادي كما أعلنه في (القصيدة المدخل)(14) ويقره مجدداً ويؤكد عليه هنا:

أبوحُ بالشعرِ عمّا جاشَ في خَلَدِي صراحةً دونَ تلفيقٍ وتلقينِ

فلا لسانِي على فُحشٍ بمنطلقٍ ولا سُكوتي على ضيمٍ بمأمونِ

والشعرُ إنْ لمْ يكنْ حراً وصاحبه حرٌ فمَا هو إلا ِّنفتُ مخْبونِ

وقد وردت الاقتباسات داخل قصيدة (من وحي الثمانين) في صور شتى ومواضع مختلفة تمثلت في عناوين قصائده السابقة أو بعض أبياتها حرفياً أو محورة، كالتالي:

“خمسون عاماً زرعنا روضها أملا” والمد والجزر يقصيني ويدنيني

وصدرُ هذا البيت منقولٌ من قصيدة نظمها سنة 2006 في احتفالية كلية العلوم بجامعة طرابلس بمناسية عيدها الخمسين. كما نجده عند اقتباسه بيتاً من قصيدته (إلى الزراعة في عيدها الثلاثين) قد استبدل فيه كلمة “شعر” بكلمة “شطر” :

وقد يخالفهم شعري فيغضبهم فيصفعوني بشطرٍ غير موزون

وقد يخالفهم شعري فيغضبهم فيصفعوني بشعرٍ غير موزون(15)

وكذلك استعار نفس السؤال الوارد في صدر البيت الأول من قصيدته (برقية عاجلة أخرى إلى بلقيس) كالتالي:

(هل نحن حقاً يمانيون) وانطلقت عبر الأحبة مني للملايين

هل نحن حقاً يمانيون يا فتناً تسعرت في حمانا تحرق اليمنا(16)

وبالمثل استحضر صدر البيت الأول كاملاً من قصيدته (عندما تسبح النسور) :

في قلعةٍ من قلاعِ البحر غافيةٍ في روض أشعارِ “زميتِ” و”فيرجيني”

في قلعةٍ من قلاعِ البحر غافيةٍ في حضنه تتمطى بين أذرعه(17)

كما استعار صدر البيت الأول كاملاً من قصيدته التي نظمها تحية للمملكة المغربية أثناء زيارة لها ويقول فيها:

وترحلُ الشمسُ في شوق لمغربها وكلها قُبُلٌ حرّى وأحضانُ

كأنها وهجُ أنفاسٍ تعانقكم وليس بعد شعاع الشمس برهانُ

وضم ذاك الصدر الأول إلى قصيدته (من وحي الثمانين) على النحو التالي:

(وترحلُ الشمسُ في شوق لمغربها) فأحتسي قُبلاً منها تحييني

أما عنوان قصيدته (مولاي عبدك) فقد استهل به بيتاً يقول فيه:

(مولاي عبدك) آوتني لبردتها ولم يزل حضنها الفوّاح يأويني

ولم يكتفِ شاعرنا الكبير عبدالمولى البغدادي بالاقتباس من نفسه، أي من أبياته وقصائده فحسب، بل أسكن قصيدته (من وحي الثمانين) خمسة أبياتٍ للشاعر عبدالحميد بطاو، وهو ما يعزز انفتاح شاعرنا البغدادي على الموروث الشعري الليبي وقبوله بالتوحد معه وفق المشترك والنهج الذي اختطه عبر مسيرته الشعرية. وهذه الأبيات المستعارة من الشاعر عبدالحميد بطاو هي:

لازلتُ أسلكُ دربَ العشقِ مقتحماً ولم يزل همسُ مَنْ أهواه يغريني

هذي الثمانون قد جاءت وما خفتت نارُ التوهجِ من قلبي ومن عيني

حتى إن قيل جدي لن أقل نعم إلى الحفيد الذي لا شك يعنيني

مازلتُ رغم بياضِ الشيب تجذبني نحو الهوى بعض أشعاري وتنشيني

مازلتُ حين يمر الغيمُ يمطرني فيورق الخصبُ في جدبي ويرويني

إن كل الاقتباسات التي أوردها الشاعر الدكتور عبدالمولى البغدادي في قصيدته المعلقة (من وحي الثمانين) لم تكن مثقلة على النص ومضمونه الشعري، أو نبتة غريبة في حديقة ورودها، بل جاءت متناغمة معها على صعيد المعنى والإيقاع الموسيقي لتؤكد جميعها بأن رحلة الشاعر عبدالمولى البغدادي الشعرية وحدة متراصة في شكلها الإبداعي ومضمونها الفكري وتتواصل على نفس النسق والمبدأ، وبالتالي فإنها مثل التبر الثمين الذي لا يبهت بريقه الفني الجمالي ولا تبخس قيمته الإبداعية الإنسانية والوطنية مع مرور الأيام والسنين والأزمنة.

أمكنةٌ وأعلامٌ في القصيدة الثمانينية البغدادية:

اعتمدت قراءة هذه القصيدة الطويلة منهجيةً حصريةً لعدد الأسماء والأعلام والأمكنة التي وردت بها، بغرض البحث في ارتباطها وعلاقتها خارج النص بالشاعر خلال رحلته الثمانينية، كما يصفها، للإيمان الكبير بتأثير المكان والبيئة وعناصر ومكونات المحيط كافة في إنتاج النص الإبداعي، فاتضح من خلال تحليل هذه العلاقة الترابطية أن الشاعر لم يضع أي مخططٍ أو سياق، أو يحدد أية مسارات لتوجيه قصيدته صوب اتجاه معين، بل جعلها مساحة تعبير حرة مفتوحة، رهينة الإلهام أو الوحي الشعري الذي يجود به ملاك أو شيطان الشعر عليه. لذلك نجد الشاعر قد أورد أمكنة جغرافية قاصية ودانية، داخلية وخارجية حطت بها قدماه وتجول فيها خلال هذه الرحلة الثمانينية بلغ عددها (26) ستة وعشرين موقعا بين منطقة ومدينة ودولة تم رصدها في الجدول كالتالي:

م المكان رقم البيت بالقصيدة ملاحظات
1 روما 20 عاصمة جمهورية إيطاليا
2 السرايا 33 قلعة السرايا الحمراء بطرابلس
3 منتكاتيني 38 مدينة إيطالية يقصدها السواح من كبار السن للاستجمام
4 سوق المشير 56 أحد الأسواق القديمة بمدينة طرابلس
5 سوق الجمعة 56 حي شهير من أحياء مدينة طرابلس ولد به الشاعر
6 بنغازي 58 مدينة ليبية
7 البيضاء 60 مدينة ليبية
8 فلسطين 110 دولة فلسطين
9 لندن 161 عاصمة بريطانيا
10 برلين 161 مدينة ألمانية
11 آدابكم 177 كلية الآداب بجامعة طرابلس
م المكان رقم البيت بالقصيدة ملاحظات
12 الاخيار 205 منطقة قصر الاخيار شرق طرابلس
13 النيل 265 نهر النيل بالقاهرة
14 الأزهر 266 جامعة الأزهر بمصر
15 مصر 268 دولة جمهورية مصر العربية
16 أمريكا 270 دولة الولايات المتحدة الأمريكية
17 الصين 273 دولة جمهورية الصين الشعبية
18 اليمن 277 جمهورية اليمن
19 فاليتا 279 عاصمة جمهورية مالطا
20 كبارى 279 حي من أحياء العاصمة المالطية فاليتا
21 حمروني 279 حي من أحياء العاصمة المالطية فاليتا
22 لمغربها 284 المملكة المغربية بالمغرب الأقصى
23 الرباط 285 عاصمة المملكة المغربية
24 درنة 291 مدينة ليبية
25 مزدة 305 مدينة ليبية
26 عكاظ 306 مدينة سعودية اشتهرت في الجاهلية بسوق عكاظ للشعر

جدول (أ): حصر الأماكن في قصيدة (من وحيٍّ الثمانين)

وعند تصنيف الأمكنة بالجدول (أ) نجد فيها تسعة أماكن ليبية هي (السرايا، سوق المشير، سوق الجمعة، بنغازي، البيضاء، كلية الآداب، الأخيار، درنة، مزدة) وثمانية أماكن عربية هي (فلسطين، النيل، الأزهر، مصر، اليمن، المغرب، الرباط، عكاظ) أما الأماكن غير العربية فكانت تسعة كالتالي (روما، منتكاتيني، لندن، برلين، أمريكا، الصين، فاليتا، كبارى، حمروني).

وقد تميزت مدينة درنة الجميلة في هذه القصيدة بظهورها مرتين، الأولى باسمها الصريح، والثانية رمزاً من خلال الإشارة إلى ذكرى الهدية التي نالها شاعرنا من شيوخها الأفاضل -رحمهم الله- وعلى رأسهم الشيخ حسين الحُلافي مسؤول المعاهد الدينية آنذاك وهي عبارة عن نسخة من قاموس (المنجد) القديم، الذي لازال يحتفظ بها حتى الآن، وذلك تقديراً ومكافأة له على دفاعه عن الشيوخ (أصحاب العمائم) ومدرستهم الشعرية التقليدية:

“مَنْ غيرُ “درنة” أشهى روضةٍ سكبتْ في روعيَ السحرَ حتى كادَ يغويني”

“وتوَّجتني هداياها (بمنجدِها) ففاقَ كلَّ الهدايا والنياشينِ”

ولكن نلاحظ بكل اندهاش واستغراب من خلال جدول الأماكن أن الشاعر عبدالمولى البغدادي لم يتذكر أو يذكر في قصيدته المعلقة (من وحي الثمانين) مدينتي “مكة المكرمة” أو “المدينة المنورة” اللتين سافر إليهما لتأدية فريضة الحج ومناسك العمرة عدة مرات، رغم أن الرحلة الحجازية للأراضي والبقاع المقدسة، خاصة الزيارة الأولى، تظل راسخة في ذاكرتي القلب والعقل تفوح بأنفاسها العطرة وتغمر الإنسان إيماناً وطمأنينة وشوقاً متجدداً إليها، فلا يخبو أبدا صداها، أو يغيبُ طيبُ شذاها المعطر بالنفحات الربانية وسيرةِ رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام طوال الحياة.

والدهشةُ ذاتُها تفرز ذاك السؤال المحير، كيف يتذكر شاعرنا الكبير عبدالمولى البغدادي على سبيل المثال مدينة “مونتكاتيني” السياحية الإيطالية التي أمضى بها شهر عسل زواجه قبل أكثر من خمسين عاماً، وهي تعج بالمصطافين من كل الأعمار والأجناس، ويغفل عن بيت الله الحرام “مكة المكرمة” ودارِ رسول الله صلى الله عليه وسلم “المدينة المنورة” ؟، لولا شيطان الشعر الذي لا سلطان للشاعر عليه ولا يمكنه تطويعه والسيطرة على خيالاته، وهذا يجعلنا نتفق مع الفيلسوف الإغريقي “افلاطون” الذي يرى بأن الشعر نوع من النشوة الفنية التي يغيب فيها الشاعر عن إحساسه وشعوره المادي ويظل خاضعاً لجاذبية وتأثير فضاء الإلهام الحسّي المجهول المصدر.

وإن ظهر ذلك على صعيد الأمكنة، فإننا سنكتشف عند استعراض الأسماء والأعلام التي أسكنها قصيدته الجميلة بأنها تنوعت وتعددت وتوزعت على أزمنتها التاريخية ومواطنها في البلاد والأقطار البعيدة والقريبة فكانت لبعض الأنبياء والرسل والصالحين، والمشائخ، والأطفال، والأصدقاء وزملاء الجامعة والشعراء والشخصيات الليبية والعربية والاجنبية وسواهم، حيث ظهر بعضها بصفته أو باسمه الأول أو لقبه أو كنيته أو شهرته أو غير ذلك بالتلميح إليها رمزاً أو وصفا وفق ضرورة النظم الشعري.

م الاسم/ العلم رقم البيت بالقصيدة ملاحظات
1 الله 15 اسم الجلالة والذات الإلهية
2 البالبو 21 الجنرال الإيطالي بالبو حاكم طرابلس أثناء الإحتلال الفاشيستي
3 الوالد 23 محمد البغدادي والد الشاعر رحمه الله
4 جدي 25 محمد البغدادي جد الشاعر رحمه الله
5 مُسيليني 33 بينيتو موسيليني قائد عسكري ورئيس وزراء إيطاليا
6 بشير 44 المناضل الوطني بشير السعداوي
7 حفص 48 المقصود رواية حفص عن عاصم وهي إحدى روايات القرآن الكريم
8 قالون 48 المقصود رواية قالون عن نافع وهي إحدى روايات القرآن الكريم
9 قارون 70 شخصية ورد ذكرها بالقرآن الكريم من قوم سيدنا موسى عليه السلام
10 إبريل 74 الشهر الرابع من شهور السنة الإفرنجية
11 الصهاينة 109 بنو صهيون الذين احتلوا الأراضي العربية
12 الفدائيين 110 الأبطال العرب المقاومون للاحتلال الصهيوني
13 شارون 111 أريل شارون، رئيس وزراء دولة إسرائيل الأسبق
14 فرعون 120 ملك ظالم حكم قوم سيدنا موسى عليه السلام ورد في القرآن الكريم
15 موسى 122 نبي الله موسى عليه السلام
16 هارون 122 نبي الله هارون عليه السلام
17 نيرون 123 الدكتاتور نيرون الذي اشتهر بحرقه مدينة روما الايطالية
18 هولاكو 123 الامبراطور المغولي هولاكو خان الذي احتل شرق آسيا والعراق وحرق مكتبة بغداد وقتل أهلها
19 اسكوني 128 سيلفيو بيرلسكوني رئيس وزراء ايطاليا الأسبق
20 مالك 148 الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة
21 العثيمين 148 العالم الإسلامي الشيخ صالح العثيمين
22 الفاشيست 150 أعضاء وأنصار حزب إيطالي ديكتاتوري دموي
23 أبومعاذ 178 الدكتور محمد علي البحباح
24 أبوبيان 180 الدكتور خالد ميلاد العود
25 طارق 181 الدكتور طارق الشيباني
26 بريون 181 الدكتور محمد بريون
27 طه 182 الطفل طه عبدالستار بشيه
28 آية 182 الطفلة آية عبدالستار بشيه
29 هرّامة الشعر 184 الدكتور عبدالحميد الهرامة
30 مآب 185 ابنة الدكتور صالح الشريف
31 صالح 185 الدكتور صالح الشريف
32 خليل جبران 186 الدكتور رضا محمد مسعود جبران
33 عمير 187 الدكتور محمد عمر بن حسين
34 حسين 208 الدكتور حسين صالح الدبوس أصدر ديوان شعر بعنوان (قبلة على جبين السلطان) حول الشاعر الدكتور عبدالمولى البغدادي
35 حسّون 210 الدكتور حسين صالح الدبوس
36 أبوعجيلة 211 الدكتور أبوعجيلة عويلي قدم رسالة دكتوراة بجامعة المنصورة بمصر عنوانها (ديوان على جناح نورس للشاعر عبدالمولى البغدادي: معجم ودراسة دلالية)
37 علاء 214 الدكتور علاء الدين الأسطى
38 الجراري 220 الدكتور محمد الجراري
39 سعدون 222 الدكتور سعدون اسماعيل السويح
40 نزار 223 الشاعر العربي الراحل نزار قباني
41 إيمان 224 إيمان سعدون السويح
42 ميسون 224 ميسون سعدون السويح
43 يونس 227 الأستاذ يونس شعبان الفنادي
44 الفريحيت 230 الدكتور محمود فرحات
45 الأربيد 231 الدكتور عبدالحكيم الأربد
46 النعمي 231 الدكتور الراحل عبدالله الأمين النعمي
47 الهوني 231 الدكتور الراحل عبدالله الهوني
48 النجاشي 274 أحد ملوك الحبشة
49 سعيد 276 الشاعر والدبلوماسي اليمني الأستاذ محمد سعيد الجرادة
50 البردوني 276 الشاعر اليمني عبدالله البردوني
51 زميت 280 الدكتور مارتن زميت، مالطي الجنسية
52 فرجيني 280 الدكتور أوليفيري فيرجيري، مالطي الجنسية
53 ابن تشفين 285 يوسف بن تاشفين الصنهاجي، قائد وموحد المغرب والأندلس
54 إمريء القيس 307 الشاعر العربي الجاهلي
55 ابن قيسون 307 محمد الشمس بن قيسون الدمشقي
56 أمي 335 والدة الشاعر رحمها الله
57 مولاي 347 المولى سبحانه وتعالى
58 المتنبيء 362 الشاعر العربي العباسي
59 ابن زيدون 362 الشاعر القرطبي الأندلسي
60 آذار 381 الشهر الثالث من الشهور السريانية
61 آب 381 الشهر الثامن من الشهور السريانية
62 تشرين 381 الشهر العاشر من الشهور السريانية
63 شقرون 403 الدكتور الراحل محمد عبدالمجيد شقرون عميد كلية الزراعة سابقاً

جدول (ب): حصر الأسماء والأعلام في قصيدة (من وحي الثمانين)

ومن خلال الثبت الوارد في الجدول (ب) نجد أن شاعرنا الدكتور عبدالمولى البغدادي يتذكر ويضمن قصيدته (من وحي الثمانين) العديد من أسماء وألقاب الشخصيات والأصدقاء وزملاء التدريس الجامعي سواء داخل ليبيا أو خارجها. فمن الأسماء المذكورة في القرآن الكريم نجد (قارون، فرعون، موسى، هارون) وحفظة وعلماء القرآن الكريم والمشائخ (حفص، قالون، مالك، العثيمين) والشعراء (خليل جبران، نزار، البردوني، إمريء القيس، ابن قيسون، المتنبيء، ابن زيدون) وأبرز أصدقائه الأساتذة الجامعيين رفاق مشواره الدراسي والتدريسي (هرّامة الشعر، النعمي، الهوني، الجراري، الأريبد، سعدون، شقرون) كما نجد المناضل الوطني بشير السعداوي (بشير) والدكتاتور (نيرون) والسفاح الفاشيستي (موسيليني) والإمبراطور المغولي (هولاكو) وأيضاً الأشهر الإفرنجية والسريانية (أبريل، آذار، آب، تشرين) وغيرها.

والشاعر كما كان ولازال وفياً لأصدقائه الخلص والذين من بينهم الدكتور الراحل عبدالله النعمي والذي ضمّنه هذه القصيدة باسمه وكان قد رثاه سابقاً بقصيدته المعنونة (وداعاً عُبيدَ الله) والتي يقول فيها:

فكم كنتَ يا نعميُّ فيضاً لنعمةٍ تليقُ بقدرِ العالمِ المتمرسِ

وكنتَ المربي لا ترى الكونَ كله يساوي بقايا جُملةٍ من مدرسِ

وكذلك صديقه الراحل الدكتور عبدالله الهوني الذي رثاه بقصيدته (دمعة وفاء)(18) التي يقول فيها:

لقد رحل الحبيبُ بلا وداعٍ فجّن لبُعده عني جنوني

يهونُ عليّ لو خُيرُّتُ عمري ولكنْ لا يهونُ عليّ (هوني)

وكذلك الدكتور سعدون السويح الذي أسكنه من قبل ديوانه الوحيد (على جناح نورس) وخصه بفصلٍ كاملٍ أطلق عليه (السعدونيات)(19) وقال في إحدى قصائده:

“شغلتنا الحياةُ يا سعدونُ بشؤونٍ تكونُ أو لا تكونُ”

“وتلاقت على الطريق خطانا جمع الشوق بيننا والحنينُ”

“أينا جُنّ بالنوارسِ قبلاً هل أنا – يا ترايَ – أم سعدونُ

وترٌ واحدٌ يرددُ لحناً هو لا مرسلٌ ولا موزونُ

بل مزيجٌ من الرؤى ذوبتها في كلينا مواجعٌ وشجونُ”

وربما أن هذه الأسماء قد تداعت أثناء الوحي الشعري دون ترتيب ذهني مسبق من شاعرنا الدكتور عبدالمولى البغدادي أو اختيار لأسباب معينة، سوى موقعها في قلب الشاعر وحضورها العقلي لحظة ولادة النص الشعري، ولكن رغم هذا فقد يتعجب الإنسان مثلاً بألاَّ يكون للشاعر أحمد رفيق المهدوي ذاك الحضور في قلب وفكر شاعرنا الكبير وهو الذي كان موضوع دراسته للشعر في رسالته لنيل درجة الماجستير بجامعة الأزهر بالقاهرة، وكذلك بسبب الجدل الكبير الذي أثارته قصيدته في رثاء الشاعر الإيطالي “داننزيو” رغم النفي الذي تعرض له من قبل الإيطاليين الفاشست، وهو بتلك القصيدة الرثائية جعل لفن ولغة الشعر قيمة إنسانية تتفوق على لغة الإستعمار وفنون المحتل.

كما نجد شاعرنا الدكتور عبدالمولى البغدادي يتذكر زميله الأستاذ بجامعة مالطا الدكتور أوليفير فريجيري صاحب المجموعة القصصية (أساطيرُ ما قبل الظلام)(20) والتي كتب له مقدمتها، ولازال يحفظ له كل الوفاء طوال هذه الرحلة العمرية الطويلة، بينما ينسى زميله الجامعي وصديقه اللذوذ الدكتور أبوالقاسم خماج، غريمه في تلك المطارحات الشعرية والمعارضات الشهيرة التي كنا نترقبها أيام دراستنا الجامعية وننتظرها بكل شوق وشغف، والتي سجلت جولات شعرية وصولات ممتعة مع نصوص هجائية متبادلة بينهما، ظلت تبرز تحدياً شريفاً أفاض فيه كل واحد منها بالكثير من الأشعار والدعابات، التي استمتعنا بها كثيراً، وكان آخرها تلك الدعوة التي أطلقها الدكتور أبوالقاسم خماج بمناسبة زفاف المهندس ضياء عبدالمولى البغدادي نجل الشاعر بتاريخ 9 سبتمبر 1999 حين علق على جدران الجامعة إعلاناً شعرياً بعنوان (دعوةٌ لم يسبق لها مثيل) استهلها ببيتين من شعره يقول فيهما:

أمطروا أفراحَ هذا الأخطلِ بهجاءٍ مثلِ غازِ الخرذلِ

جرّعوه مثلما جرّعكم من أكفِّ الشعرِ كأسَ الحنظلِ

وقد رفض الأستاذ الفاضل الدكتور عبدالحميد الهرامة أو (هرّامة الشعر) كما ورد في القصيدة البغدادية (من وحي الثمانين) المشاركة في تلك الدعوة وقال منصفاً:

يتزاحمون على القريض وفيهمو فحلان قد ملكا حُلى الأشعارِ

فحلٌ إلى بغدادَ نسبته وكم نسبوا إلى بغدادَ من أحرارِ

في الشعر قد أخذ الإمارة غضة وبه زهت ليبيا على الأقطارِ

والقاسمُ الزاويُ قد بلغ الذرى في اللُّطفِ والآدابِ والأفكارِ

صِنوانٌ ماذا أقول في ساحيهما عُقدُ اللسانِ رتائجُ الأسرارِ(21)

وكذلك الدكتور عبدالحكيم الأربد أو (الأُريبد) كما ورد في قصيدة (من وحي الثمانين) والذي يقول:

وقالوا أهجو (مولى) قلتُ لستُ أجيبكم إلى منْ أرى في هجوه خيبةَ المسعى

أأهجو مع الهاجين أغلى أحبتي عليَّ، وأشقاهم، وأرخصُهم بيعا(22)

كما كان الشاعر سخياً وكريماً مفضالاً معي حين شرّفني واستضافني في قصيدته (من وحي الثمانين) وأسكنني فيها بيتين هما:

فاختار يونسَ مصباحاً ينيرُ لنا منذ البداياتِ درباً غيرَ مأمونِ

فكان خيرَ أنيسٍ زادنا شغفاً بنورسٍ كان طيفاً شبه مسجونِ

وأضاف إليهما بيتاً ثالثاً من نظم صديقنا الشاعر الدكتور سعدون السويح كالتالي:

هو الأنيسُ الذي آنستُ راحته تداعبُ الحرف في رفقٍ وفي لينِ

وتظل أبرز الشخصيات التي وردت بالقصيدة البغدادية الجدارية هي التي كشف بها عن مصدر إلهامه وبداياته الشعرية الأولى، وبواكير نصوصه، ونبعه المتدفق بكل هذه العذوبة المتواصلة. فطوال مسيرته الشعرية لا نجده قد أشار أبداً إليها، أو خصص لها قصيدة رثاء، مثلما فعل مع عديد الأصدقاء والأحبة. ولكن قصيدته (من وحي الثمانين) جعلتنا نتعرف على هذه الشخصية التي لم يكن يستقي منها الرعاية والحب والحنان والدفء فحسب، بل كانت والدته رحمها الله هي الفيض والنبع الذي نهل منه نبوغه وقوافيه، ولازالت تجود بها نفحات روحها ودفء أنفاسها، وهو يعترف قائلاً:

نسجتُ من شعرِ أمي ثوبَ قافيتي ومن دواوينها أشهى دواويني

صوتُ الرّحى وطبول الحربِ ما فتئ يلحنان صداها خير تلحينِ

لازال نبضُ أغانيها ينادمني كأنها لم تزل قربي تغنيني

أميةٌ غير أن السمع عوّضها نطق الحروف بترنيمٍ وتلحينِ

وكم تصنعتُ أشعاراً أمازحها فتدرك السر في ما كان يعنيني

وهكذا كنتُ في أحضانها ولِعاً بها وبالشعرِ أرويها وترويني

وإن ظهرت في قصيدة (من وحي الثمانين) بعض الشخصيات بالاسم أو باللقب أو بالصفة فقد اختار الشاعر أن يتكتم عن بعضها حين آثر استخدام أسلوب التلميح والإشارة دون التصريح بذكرها كما حدث مع أستاذه وشيخه الراحل عبدالسلام خليل وكذلك الشيخ سالم بوكر رحمهما الله وهما أصيلا بلدة جنزور غرب مدينة طرابلس، حين يقول الشاعر:

قد يشرقُ الكونُ مسكاً لو نفحتُكم ببعضِ أسماءِهم من غيرِ تعيينِ

لذاك سوف أداريهم وأكتمهم فالصمتُ في حضرةِ الأسيادِ يكفيني

خاتمة:

تعتمد قصيدة السيرذاتية على حيوية وفاعلية الذاكرة البشرية التي يمكنها إستدعاء الأحداث والشخصيات من الأعماق الماضوية البعيدة، المخزنة في الذات الشعرية المبدعة، وهي عملية ليست بسيطة أو سهلة، فالتذكر يخضع لعدة عوامل لعل أبرزها المسافة الزمنية العمرية وصفاء الذهن والحالة الصحية والنفسية وغيرها، والشاعر السارد هو رهين تلك الذاكرة بكل ما يعتريها من تشويه أو زيادة أو نقصان أو تحريف، لأن الذاكرة البشرية ليست جهازاً مادياً آلياً يصمد دائماً أمام المتغيرات الزمنية والطبيعية، بل هي أحد الأنسجة العضوية البيولوجية التي يطالها الوهن والتخريف والنسيان بفعل الأيام والسنين.

وإذا كان النص الشعري المعاصر هو كيان انطولوجي يعج بالمقتطفات المتنوعة، فإن قصيدة (من وحي الثمانين) لشاعرنا الكبير الدكتور عبدالمولى البغدادي تمثل نموذجاً لهذا التنوع والتعدد المتداخل والمترابط الذي يؤسس لنص السيرذاتية الشعرية الحديثة في المشهد الشعري الليبي. وقد جاءت هذه القصيدة ثرية وزاخرة بالعديد من الأزمنة والأحداث والشخصيات والمواقف المستنطقة أو المستدعاة من وحي الذاكرة، فكانت لوحة فسيفساء تشكلت من الاقتباسات والرؤى والسرديات الإيقاعية، وظهرت في بانوراما شعرية إبداعية، كسب بها الأدب العربي نصاً شعرياً جديداً، حقق للشاعر ريادة لهذا الجنس الشعري الجديد بديوان الشعر الليبي، وهو يستحقها عن جدارة لما تحمله كل قصائده الجميلة من مضمون إنساني نبيل، وإيقاع متناغم رقيق، ولغة عميقة الدلالة والإحساس تتهادى متأنقة تنير العقول وتبهج القلوب وتطرب النفوس لكل عشاق الشعر العربي.

والقصيدة البغدادية الرائدة (من وحي الثمانين) ستظل تشرع سيرتها عبر الأربعمائة وثمانية أبيات بكل أريحية لاستقبال المزيد من النقود والدراسات العميقة التي تشرحها وتغوص في كيانها الفني، لقرائته وتشريحه وفق تقنيات ومنهجيات النقد العلمية، والتي بالتأكيد ستزيدها إضاءة وأشراقاً، فهنيئاً للشاعر الدكتور عبدالمولى البغدادي ولنا بهذا الوحي الثمانيني المنساب بكل عذوبة في قلوبنا وعقولنا معا.

____________________________________

(*) ورقة مقدمة إلى (ملتقى رحلة الثمانين للشاعر عبدالمولى البغدادي) جامعة طرابلس، كلية الآداب، بتاريخ 26 يوليو 2017

(1) سير الشعر الذاتية، أسماء بنت عبد العزيز الجنوبي، عالم الكتب الحديثة، إربد، الأردن، الطبعة الأولى، 2014.

(2) خليفة محمد التليسي، رفيق شاعر الوطن، المطبعة الحكومية، طرابلس – ليبيا، 1965

(3) على جناح نورس، د. عبدالمولى البغدادي، بلا د.ن.، الطبعة الاولى، 1999

(4) على جناح نورس، ص 171

(5) على جناح نورس، ص 63

(6) على جناح نورس، ص 347

(7) على جناح نورس، ص 141

(8) على جناح نورس، ص 213

(9) على جناح نورس، ص 251

(10) الورد الأبيض، مصطفى محمد العربي، المنشأة الشعبية للنشر والتوزيع والإعلان، الطبعة الأولى، 1980.

(11) الورد الأبيض، ص81 – 140

(12) الورد الأبيض، ص 162 – 196

(13) ديوان المتنبي، دار بيروت للطباعة والنشر، لبنان، 1983

(14) على جناح نورس، ص 63

(15) على جناح نورس، ص 375

(16) على جناح نورس، ص 93

(17) على جناح نورس، ص 179

(18) على جناح نورس، ص 297

(19) على جناح نورس، ص 317

(20) أساطير ما قبل الظلام، أوليفير فريجيري، ترجمة مارتن زميت، منشورات جامعة مالطا Malta University Publishers Ltd، 2003

(21) جزء من قصيدة بعنوان (هجاء الهجاء) التي تحولت إلى (صمت الهجاء) للدكتور عبدالحميد الهرامة قيلت سنة 1999

(22) جزء من قصيدة (التهاني الهجائية لمقام التسعات البغدادية) للدكتور عبدالحكيم الأربد قيلت سنة 1999

مقالات ذات علاقة

بناء الحكاية وجماليات السرد في القصة القصيرة

عبدالحكيم المالكي

ليبيا واسعة – 7 (صقع)

عبدالرحمن جماعة

ليبيا واسعة – 27 (جـــاب)

عبدالرحمن جماعة

اترك تعليق