مختارات

أزمة الهوية في ليبيا..خطاب الانفصال

.

د. شعبان بشر

.

الهوية الثقافية الوطنية هي تعبير عن المكونات التاريخية والاجتماعية لدي أي مجتمع، وهي تتطور ضمن السياق التاريخي والبنى الاقتصاد اجتماعية عبر مراحل البداوة والصراع ومن ثم الاستقرار والبناء وعند مقارنة خصائص المجتمعات غير الحداثية والمبنية على الصراع واقتصاد الغنيمة مع مجتمعات الدولة الحديثة تبين أن المجتمعات قبل الحداثية لها الخصائص التالية:

أدوات يدوية، اختراعات محدودة، واقتصاد معاشي، واقتصاد طبيعي، وتقسيم عمل محدود، واقتصاد غير متمايز، ومبدأ الكفاف، أشكال عينية للملكية، والمكانة الاجتماعية متوارثة، ونمط الوجود ثابت مغلق، والسلوكيات الأيديولوجية احترام التراتب الاجتماعي، ونمط الإدارة الاجتماعية مبني على احترام العادات والتراتب، والثقافة مقدسة، والطابع العام للمجتمع شديد التجانس، والموقف تجاه التاريخ تقديس الماضي والتقاليد، والحريات الفردية والجماعية محدودة، ومنظومة القيم مرتكزة على التراث والأسرة والارتباط بالأرض والدين ، ومعايير التقييم ضئيلة ومتجانسة، والعادات صارمة ومتصلبة.

بينما المجتمعات الحديثة تتميز بالخصائص التالية:

آلات، اختراعات، والاقتصاد إنتاج موسع، والتبادل النقدي، وتقسيم عمل متطور، وتخصص، وروح المبادرة، والملكية أشكال مجردة للملكية مثل الشركات وحقوق النشر والطبع …الخ، والمكانة الاجتماعية مكتسبة عن طريق الاستحقاق، والعلاقة العائلية ثنائية أو نووية، والدين فهم العلاقة بين المقدس والدنيوي، ونمط الوجود حراك اجتماعي وتفاعل، و السلوكيات الأيديولوجية تنافس اجتماعي، ونمط الإدارة الاجتماعية تكاثر سكاني و ارتفاع معدل الولادات وانخفاض نسبة الوفيات، والثقافة دنيوية ، والطابع العام للمجتمع شديد التنوع، والموقف تجاه التاريخ تمجيد الجديد والحريات الفردية والجماعية واسعة، ومنظومة القيم قائمة على العقل والتغير والتقدم والحرية، و معايير التقييم متعددة ومتناقضة غالبا فيما بينها، والعادات متحررة أكثر فأكثر ومرنة.

وعند قراءة الواقع الاجتماعي الليبي يتبين شيوع النمط رقم 1 والمشار إليه سابقا، وهذا النمط الاجتماع اقتصادي عجز عن تطوير هوية ثقافية وطنية عبر مراحل التاريخ المختلفة وذلك حسب وجهة نظرنا للأسباب التالية:

بينما كان فرسان مالطا ومن ثم فرسان القديس يوحنا يقومون بالسيطرة على الشواطئ الليبية وذلك مع بداية حركة الاستعمار الأوربي الحديث ضمن المرحلة التاريخية استرداد الأراضي من المسلمين كما يسميها الغرب، كانت القبائل الليبية تتبادل أشكال مختلفة من العنف ضمن قوانين الانثروبولوجيا الانقسامية والمتمثلة في العنف الموجه الذي يحفظ التوحد ضمن العشيرة الواحدة ويمٌكن من الحصول على الغنائم، ولاحقا دخول المد العثماني وسيطرته على الجغرافيا الليبية، وطيلة تلك الفترة من الوجود العثماني على الجغرافيا الليبية فشلت المكونات الاجتماعية القبلية الليبية في تكوين هوية ثقافية موحدة تعتمد على التعاون والمسؤولية والمبادرة والتمكين، وظلت ضمن ثقافة القبول والتبعية وأحيانا التمرد والعصيان من خلال قوانين الانثربولوجيا الانقسامية التي تقود حالة صراع و عصيان لا يحمل في طياته مشروع أيديولوجي سياسي واقتصادي، وإنما إعادة إنتاج تحالفات قبلية بغرض السيطرة والإخضاع للطرف الأخر، وهذا لا ينفي تكون بعض التجمعات السكانية في بعض المدن الساحلية حاولت تطوير نمط اقتصاد اجتماعي حديثي، ولكنها سرعان ما تتلاشى بسبب زحف القبائل والعشائر عليها وفرض النمط الاقتصادي الاجتماعي السائد.

يعتبر الاستعمار الايطالي في ليبيا مرحلة مفصلية في التاريخ الاجتماعي، حيث اختبر المجتمع الليبي نوع جديد من الصراع الحضاري يعتمد فيه المستعمر الجديد على إمكانيات عسكرية واقتصادية جبارة خلخلت البنى الثقافية الليبية من لغة وفكر وعادات وتقاليد، وكانت المصافحة الأولى للحداثة في المجتمع الليبي عبر تجربة مريرة كادت أن تكون شبيهة بتجربة الهنود الحمر مع الاستعمار الأوربي، وبعد السيطرة الكاملة للايطاليين على ليبيا، بدأ تشكل نوع من المجتمع الحديث تحت سيطرة الديكتاتورية الفاشية، وزُج بالمجتمع الليبي في صراعات خارجية تخدم المصالح الايطالية الفاشية من خلال قانون التجنيد الإجباري.

ظهرت في ليبيا ضمن تلك المرحلة محاولات استعمارية لبناء مجتمع زراعي وشبه صناعي حديث، وظلت حالة الصراع الثقافي تبدوا وتخفت خلال تلك المرحلة، وكانت أول محاولة ليبية وطنية لإنشاء دولة حديثة في المنطقة الغربية مشروع الجمهورية الطرابلسية بقيادة كل من سليمان الباروني و رمضان السويحلي و كعبار وغيرهم من القادة الاجتماعيين الليبيين، ولكن هذه التجربة فشلت بسبب صراع الزعامات القبلية وتجدد مشروع العنف والإبادة بعد الانقلاب الفاشي في ايطاليا، ومن الخصائص الاجتماعية لتلك المرحلة شيوع حالة الصراع والاقتتال بين الزعامات القبلية في المنطقة الغربية، وتوحد العشائر والقبائل في المنطقة الشرقية تحت قيادة عمر المختار.

وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية تشكل الدولة الليبية الحديثة الوريثة للاستعمار ظهر ما يسمى إمارة برقة المستقلة بقيادة إدريس السنوسي ومن ثم الشكل الفيدرالي للدولة بعد مفاوضات مضنية قادها زعماء المنطقة الغربية لإقناع الملك السنوسي بضم كل من إقليمي طرابلس وفزان إلى المملكة الليبية الناشئة، وتحقق هذا الحلم الليبي بفضل بعض القادة الليبيين من أمثال بشير السعداوي وسيف النصر وغيرهم، وبدأت المملكة الليبية في بناء الدولة الحديثة ضمن ثلاثة أقاليم برقة وطرابلس وفزان، ومن ثم المملكة الاتحادية، وبالرغم من حالة الفقر والعوز الشامل في المجتمع الليبي إلا أن هذه الدولة الناشئة بدأت تحقق نجاح بطيء وتدريجي، وتسارعت خطاه بسبب عاملي الوحدة واكتشاف النفط، وفي العام 1969 م قام الجيش بانقلاب عسكري اسقط الملكية وسيطر فيه ضباط شباب من مختلف أماكن ليبيا على الحكم وتم إعلان الجمهورية الليبية وفق الايدولوجيا القومية العربية السائدة آنذاك، وبدأ تشكل نمط جديد من العلاقة والحاكمية في المجتمع الليبي، حيث قامت السلطة الجديدة في ليبيا بإحياء النمط القبلي من جديد وخاصة بعد فشل انقلاب عام 1975 م وتسارع حركة العنف الموجه من قبل السلطة العسكرية تجاه المجتمع، ركزت السلطة الجديدة على مشروع التحالفات القبلية بغرض السيطرة والاستمرار، وتلاشت الحياة المدنية بشكل تدريجي، وأصبح نمط البداوة هو المسيطر والسائد ضمن الخطاب الاجتماعي، وذلك استنادا على توجيه دخل النفط عبر اقتصاد خطي يقوم فيه رأس السلطة والمنظومة التابعة له بإعادة تشكيل النفوذ القبلي عن طريق الهبات النقدية والعينية و المزايا و تقاسم شكلي للسلطة، وتفتيت المجتمع الليبي إلى هويات قبلية متناحرة شبيه بمرحلة دخول فرسان القديس يوحنا لليبيا والصراع القبلي خلال المرحلة الممتدة من العام 1912 م إلي 1922 م، وظلت السلطة الحاكمة تدير حالة الصراع القبلي ضمن مشروع سلطة مجرد، وتلاشت الحالة المدنية للمجتمع الليبي إلى أن قامت ثورة 17 فبراير وأسقطت النظام الحاكم، والحالة الراهنة في ليبيا وريثة لحالة الانقسام والتنازع القبلي وخاصة في المنطقة الغربية التي لم تختبر طيلة تاريخها مشروع وحدة وطنية، كما أن بعض القوى القبلية في ليبيا تحاول فرض مشروع سلطة يحتكم للأمر الواقع ويقوم بتشكيل سلطة مهيمنة ومسيطرة تشبه نمط الحاكمية الذي طبقه النظام السابق، وحسب رأينا يتمثل المخرج الوحيد للمجتمع الليبي في هذه المرحلة في تكوين عقد اجتماعي جديد يعتمد مبدأ المواطنة والهوية الثقافية الوطنية الموحدة والتبادل السلمي للسلطة واللامركزية الإدارية، والحديث عن المجالس المحلية والمجالس العسكرية هو نوع من ترسيخ حالة الانقسام وامتداد لحاكمية النظام السابق ضمن مسميات جديدة وترسيخ لمبدأ اقتصاد الغنيمة.

Laffont, Robert (1976) encyclopedie de sociologie ، Grammont.

 

غن موقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

أول أديب روسي يزور ليبيا عام 1884

المشرف العام

ملتقى جيلاني طريبشان.. “الأدب للحياة”

المشرف العام

إلى طرابلس – 3

عبدالقادر الفيتوري

اترك تعليق