استطلاعات

أدب الرسائل وأدباء ليبيا

هل يجوز الجَهر بالسرّ “الرسائل”؟ هل هو انتهاك للخصوصية؟

استطلاع: ليلى المغربي

قبل أسابيع قليلة قدمت الأديبة غادة السمان كتابها الجديد في معرض بيروت للكتاب بعنوان “رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان” عن دار الطليعة، لم تكن المرة الأولى التي تقدم فيها السمان كتاباً من أدب الرسائل فقد سبقه في أوائل التسعينيات من القرت الماضي أن نشرت كتاباً لرسائل الكاتب والمناضل الفلسطيني غسان كنفاني، وفي كلتا الحالتين كانت ردة الفعل قوية وأثارت عاصفة من التساؤلات عن هدف الكاتبة، وأحقيتها في نشر رسائل خاصة بعد رحيل أصحابها، وهل أفلست أدبياً لتلجأ لنشر هذا النوع من الأدب الذي قد يرحب به العديد من القراء، وقد يرفضه أخرون وأسباب الترحيب والرفض مختلفة بإختلاف فكر وخصوصية القارئ.

اتسمت غادة السمان بالجرأة والتمرد والعفوية في شخصيتها وانعكس هذا على أعمالها الأدبية من شعر وقصة ورواية، والجدل الذي أثير حول علاقتها بالراحل كنفاني التي شكلت مفاجأة غير متوقعة، يرجع في أغلبه إلى ارتباطه بمسيرة النضال ونظرة الناس له وكأن المناضل لا يحق له أن تكون له حياة خاصة، وإن أعطي هذا الحق فالسخط كان على السمان التي كشفت ما يراه المجتمع خصوصية وما وجدت فيه غادة نصوصاً أدبية تستحق النشر، ذات الجدل يعود في الأوساط الأدبية مع رسائل أنسي الحاج وطرح الأسئلة عن الخصوصية والأدب والعائلة والمجتمع.

كل هذا التنوع والاختلاف في الأراء جعلني أفكر في مجتمعنا الليبي المحافظ إلى حد بعيد والمتمسك بالعادات والتقاليد والأعراف، والذي يطلق أحكامه أحياناً على الأدب عموماً بتأويل النصوص وخنقها وإسقاطها على الأديب/الأديبة وحياته/حياتها الشخصية، وقد يجد نفسه في مواجهة المجتمع بتهم لا تعد ولا تحصى، ويناقض مجتمعنا نفسه حين ينتهك خصوصية الفرد بفرض سلطته ولكنه لا يرضى أن تاتي من الفرد نفسه وخاصة في عمل إبداعي،   ولهذا أردت أن أعرف كيف ستكون ردة فعل القراء في ليبيا لو أن أحد أدبائنا/أديباتنا، قام/قامت بنشر كتابً فحواه رسائل متبادلة فيها الكثير من الحب والأدب؟

وهذا السؤال قادني إلى السؤال الأهم والأساس، ما رأي أدباء ليبيا بهذا النوع من الأدب؟ وهل هم/هن قادرين على خوضه وقبول عواقبه؟ وخاصة أن المهمة الأساسية للأدب هي التمرد على القوالب النمطية التي يفرضها المجتمع في قالب أعراف وتقاليد وكسرها ومحاولة التأثير عليها بعدة طرق تهدف إلى الوعي بأهمية هذا التنوع والاختلاف، لم أشأ ترك أسئلتي دون إجابة فقررت التوجه بها للأدباء والأديبات الليبيين، تباينت الأراء بين من يراها جنس أدبي يستحق النشر ويثري الأدب ولا يجد غضاضة في نشره للقارئ على اعتبار أن هذه الرسائل خرجت عن كونها خاصة لما تحمله من صياغة أدبية راقية، وبين من يراها انتهاكاً للخصوصية ولا يجب نشرها أو خشية من المجتمع الذي يحاكم الإبداع بشخص الكاتب، وربما طرح قضايا كهذه تمس الإبداع والمبدعين يلقي الضوء على أهمية النص والمشاق التي يعانيها المبدع ويواجهها أمام القراء، وتأجيل استطلاع أراء القراء لهذا النوع من الأدب لعمل قادم…. وأترك للقراء الإطلاع على أراء متنوعة لمبدعين من ليبيا، وقد اعتمدت الترتيب الابجدي في نسق عرض هذه الأراء.

الأديب أحمد ابراهيم الفقيه

لم تكن مثل هذه الكتب التي تنشر الرسائل المتبادلة بين الأدباء تثير جدالاً عندما كنا نقرأها مترجمة من ثقافات ولغات أخرى، هذه الكتب ليست دائما بين عشاق ولكن بين أدباء مثل المراسلات بين جوركي وتشيخوف وتولستوي وغيرهم من أدباء روسيا ولكن هناك رسائل حب ظهرت لكتاب مثل فلوبير وكتاب معاصرين مثل هيمنجواي وسارتر وغير هؤلاء كثر ولم نرها تثير جدلاً بل يباركها المهتمون بالأدب ويرون فيها إضاءة للتاريخ الأدبي حتى لو احتوت بعض هذه الرسائل ما يمكن أن يصل الى حد المباذل. في العالم العربي كان الناقد رجاء النقاش قد نشر رسائل أنور المعداوي للشاعر الفلسطينية الكبيرة فدوى طوقان، وربما أثار الكتاب في وقته شيئاً من الإثارة ولكن ليس الاحتجاج، وفي الأعوام الأخيرة تجرأت الكاتبة الشهيرة السيدة غادة السمان، بنشر رسائل الكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني، التي بثها فيها لواعج حبه، وهاهي الان وبعد سنوات من صدور ذلك الكتاب  تصدر كتاباً جديداً يحتوي رسائل الشاعر اللبناني الحداثي الراحل أنسي الحاج إليها، والتي يبثها فيها غرامه ويشرح معاناته وألامه، إلا أنها فيما يبدو كانت فترة حب  قصيرة سرعان ما ولت.غادة السمان بدأت حياتها فتاة متمردة ذات ثقافة وجمال وموهبة، وكانت محط انظار الكثيرين، وباعتباري معاصراً لظهورها، فقد كنت مدركاً لحجم الإثارة التي حصلت بفعل هذا الظهور في أجواء دمشق وبيروت التي انتقلت إليها ونشرت فيها كتابها الاول “عيناك قدري”، وأعرف أصدقاء شخصيين افتتنوا بها، وارتبطوا بمواعيد معها، بعضهم أباح لي بذلك مثل صديقي الراحل ياسين رفاعية، وبعضهم تناقلت أخبار حبه لها الصحف الى حد ان  ظهرت اخبار خطبة لم تكتمل مثل صديقي الراحل ياسر هواري. وهي كاتبة لها جمهور عريض، متعها الله بالصحة وادام  عطاءها، ولها مني خالص المودة.

لا أرى هذه الرسائل إلا جزء من تاريخ المجتمع الأدبي، رغم ما تحمله أحيانا من خفة، وقد يصل بعضها الى ما يشبه كتب النميمة، ولكن مع ذلك فإن رحابة صدر الحياة الادبية قادرة على استيعاب مثل هذه الهفوات التي قد  تتضمنها بعض الرسائل، بالنسبة لي شخصيا أوافق تماماً على نشر أي رسائل لي تبادلتها مع كاتب أو كاتبة، ربما كان التحفظ على الرسائل لاحتوائها أشياء سياسية تضع الانسان أمام المساءلة في عهد مثل العهد الاستبدادي الذي رحل، ولكن غير ذلك فلا تحفظ لي اطلاقا، وكما نعلم فإن لهذه الرسائل شرطاً اخلاقياً لابد من الالتزام به وهو حذف أي جانب شخصي ذاتي لا علاقة له بشان عام أو قضية أدبية أو يخرج عن سياق العلاقة بين الراسل والمرسل اليه، لأنها تدخل بشأن أخرين لا حق لصاحب الرسالة أن يهزأ  بها هذا اولاً، وثانيا فإن هناك تعقيباً عاماً لابد من قوله وهو أن عصر الرسائل الورقية التي أسست لأدب الرسائل  صار إلى أفول الأن، هذا النوع بدأ في الانقراض لأننا لم نعد نتبادل الرسائل الورقية مع أصدقائنا ولا حبيباتنا، تحول الامرإلى هواتف ورسائل هاتفية ورسائل الكترونية ورسائل عبر صندوق الرسائل في مواقع التواصل، والثقافة الرقمية صارت تقضي على هذا النوع من الأدب وجاء الأن الفايبر ومكالماته الهاتفية المجانية، فمن تراه مازال قادراً على أن يصبر على كتابة رسالة وانتظارها حتى تصل إليه أو تصل منه إلى الطرف الأخر في العلاقة، نعم أدب الرسائل في انقراض وربما يظهر لنا أدب أخر مثل ايميلات هيلاري كلينتون وهو عصر جديد لا  نستطيع أن نتنبا بما يسفر عنه.

الشاعرة انتصار المقريف

طرح جرئ لهذا الموضوع الحساس الذي لطالما سألت نفسي عنه.. مي وجبران..غادة وغسان/ أنسي… ماهي تلك الظروف التي سنحت لهم ولم تسنح لأدباء وشعراء من جيلنا هذا… قد نحتاج لدراسة هذه الظاهرة من حيث ظروفها الاجتماعية والدينية… دون أن نشرك الأسباب الثقافية لأننا نكاد نجزم أن الثقافة العربية تكاد تكون واحدة حيال إعلان الحب والعشق، ولا ننسي الشق الأخر من الأدب ألا وهو الشعر فكثيراً ما تحدث مساجلات بين شعراء وشاعرات قد لا يكون إن حدث هذا في زمن المراسلات الورقية… وقد لا يكون قد حدث بين شاعرين عاشقين ومع هذا نجدهم يترددون في نشر تلك المساجلة رغبة منهم في الابتعاد عن الشبهات… لو أردت أن أقول أني ضد… فهذا يعني أني لا أقدر المشاعر النبيلة وكل ما أكتبه وهم… وإن قلت أني مع..فأقول سأوضع في خانة الأعراف والتقاليد..الأمر لايختلف عليه اثنان….حبذا لو تنشر هذه المساجلات من قبل أصحابها… رغم ظني أن الأمر صعب من جهة الأنثى لأسباب ندركها جميعنا…وسبق وذكرت ليس شرطا أن يكون عن قصة حقيقية يكفي أن يكون سجال بين أديب وأديبة… أما التمرد فهو ليس بالأمر المكتسب حتى نطلب من الأخرين التحلي به.. هو شيء يستطيعه أمثالي وأمثالك… وندفع ثمنه.

الشاعرة بشرى الهوني

لقد عرف تاريخنا العربي عديد المراسلات الأدبية الثنائية بين أعلام إبداعية وثق أحدها لما دار بينهما من حواريات ونحن في ليبيا أخذنا دور القارئ المتتبع لتفاصيل هذه المراسلات كنوع أدبي مثير ومميز لكنه ليس بالنمط المعاش أو المتداول لدينا لأنه باختصار لا زال شاذاً وغريباً عن بقية الأجناس من الكتابات الأدبية بليبيا… شخصياً يظل قبول هذا الصنف من عدمه مرتبطا لدي بمعايير عدة أولها أن لايتم النشر إلا بموافقة تامة من كلا الطرفين المعنيين حتى يكون هناك إحترام لمبدأ الخصوصية والحريّة الشخصية ولا يقع الناشر في المحظور… ثانيا إذا كان مضمون المراسلات ذَا طابع عام يعني القارىء ولو قليلا فالأمر هنا سيكون مستساغا أما إن كانت كل المراسلات تعكس فقط مواقف خاصة ومغرقة في الخصوصية فأعتقد أنه حينها من الأفضل أن تصاغ لتقدم كمذكرات في شكل رواية أي بعد التعديل وتجاوز بعض التفاصيل التي ربما يكون إخفاءها أجدى… طبعا أتحدث هنا عن المراسلات المنشورة بحذافيرها كما في رسائل غادة السمان لغسان كنفاني أما إذا وردت في صيغة إبداعية أخرى كالشعر فبرأيي سيكون الأمر جد مختلف لأنها حواريات شعرية قد تحوي الكثير من الصور والمعاني التي تخرج بالنص من مجرد مراسلة إلى قصيد متشعب المضارب وقد سبق وخضت هذه التجربة مع عديد الشعراء سواء من ليبيا أو خارجها ومنهم من توفته المنية ولا أنكر أني أفكر جدياً في نشر هذه المراسلات الشعرية لأنها في نهاية المطاف لا تأخذ طابعا شخصيا وإنما هي وسيلة كنّا نحفز بها بعضنا البعض لمد جسور التواصل قبل أن ينضب بفعل مشاغل الحياة اليومية.

الأديبة رزان المغربي

وصلتني مرة رسالة إلكترونية من صديق شاعر وكاتب، مرفقة بملفات، كَتب عليها: رسائلنا. أخبرني أنه استعاد مجموعة لا بأس بها من رسائل إلكترونية تبادلناها في أحد الأعوام الماضية. بعد قراءتها أسفت لعدم امتلاكنا الشجاعة لنشر بعضٍ منها، رسائل تحمل قيماً معرفية وأدبية تستحق النشر. ومرت في تلك اللحظة، صورة صديق أديب ومثقف ليبي، وهو ينصحني أن أكون حذرة في تبادل الرسائل مع الأصدقاء الأدباء، لئلا يأتي يوم وأشعر بالندم على نشرها، كنت وقتها في البدايات الأولى لمشاركتي بالمؤتمرات والندوات الثقافية. حدّثته بفخر عن رسالة بريدية وصلتني من كاتب كبير أعتز بمعرفته، يقيم في بيروت، وأرسلت له رداً مكتوباً، وضعته بمغلف وألصقت عليه الطوابع البريدية. يومها لم تكن الرسائل الإلكترونية متبادلة. نصيحته، أعادت إلى الذاكرة كلّ ما دار من جدال حول نشر رسائل غسّان كنفاني لغادة السمان، بينما، كان لرسائل مي زيادة وجبران أثر مختلف في الأوساط الأدبية والثقافية وبين القرّاء، حيث الأولى وُصفت بأنها جريئة وتسعى نحو الشهرة بعد أن فقدت أعمال الأديبة ذاك البريق المعهود، على حد تعبير أحدهم. بل اتخذت الاتهامات منحى أكثر حدة، ولا أذكر أن هناك من تناولها بالدراسة العميقة، حيث إنها تمثّل مرحلة تاريخية مميزة، أو هي فرصة لكشف شخصية الكاتبة بعيداً عن أعمالها الروائية، وهي إضافة، قد لا نحظى بمثلها، لتكون جزءً من الدراسات حول السيرة الذاتية، الجنس النادر في منجز الأدب العربي، بينما تحفل الآداب الأجنبية بأعمال السير الشخصية والرسائل المتبادلة للكتّاب مع مقرّبين منهم أو بينهم وبين أدباء آخرين، سواء أكانت رسائل صداقة أو رسائل عن مشاعر الحب والغرام. مع التطور التقني ووسائل الاتصال الإلكتروني، نكاد نجزم أن صناديق البريد الخاصة ممتلئة بحكايات كثيرة ورسائل، لو نُشرت لأحدثت ارتباكاً أولياً في المشهد الثقافي، لكنها ستترك بصمة لا تزول في تاريخ الأدب الإنساني؛ حيث شخصية الأديب تغيب خلف أعماله الإبداعية، وهي خفية عن القارئ الشغوف بمعرفة أعمق. وهي مهمّة للدارس لأعماله من الناحية النقدية. وهناك أمثلة عديدة مثل رسائل دويستوفسكي إلى أخيه أثناء فترة سجنه.

الأديب سالم العوكلي

ثمة جنس أدبي مهم في الذاكرة الإنسانية اسمه (أدب الرسائل) وهو نثر راقي تحتويه مراسلات بين أدباء يناقشون قضايا مشتركة ويطرحون أسئلة، وعادة ما تضيء هذه الرسائل أماكن معتمة من تجارب أصحابها لأن البوح الحميم فيها يحميها من ضغط النشر خلال كتابتها . لم تحث مشكلة مع نشر هذه الرسائل التي شكلت جزءا من التراث الأدبي الإنساني لأن في معظمها كانت رسائل متبادلة مننفس الجنس وأغلبها بين مثقفين أو أدباء ذكور، فلماذا يثار السؤال حين تكون هذه الرسائل بين أديب وأديبة أو بين أديب وقارئة؟ هل يعود هذا لمسألة الستر التي يعتبرها الكثيرون عقيدة اجتماعية ودينية أحيانا؟ أم يقع في باب احترام الخصوصية باعتبارها رسائل غالبا ما تعكس مشاعر خاصة ولا ترتبط بقضايا أدبية أو ثقافية عامة، خصوصا عندما يكون أحد طرفي الرسائل غائبا ولا رأي له في مسألة النشر، وأحيانا الطرف الناشر يكون راغباً في الشهرة على حساب شهرة الغائب. وثمة جانب آخر يتعلق بمصداقية هذه الرسائل وإذا ما تم تحويرها أو تغيير فيها دون إذن كاتبها الغائب . إنها مسألة تقع في حقل أخلاقي يحتاج الكثير من النقاش، وعرضة لاختلافات كثيرة. عموما على الكاتب أن يعي، خصوصا حين يكون مشهوراً، أن كل ما يخطه قابل للنشر يوما ما، حتى وإن كان طلب سلفة مصرفية أو قصاصة ورق تعتذرعن إخلاله بموعد.

الأديب عمر أبوالقاسم الككلي

من حيث الجنس الكتابي، يتصل هذا النوع من الكتب بأدب الاعتراف، ويربطه رابط ما بالسيرة الذاتية. الأمر الفارق هو أن أدب الاعتراف والسيرة الذاتية يكتبها صاحبها، رجلا كان أو امرأة، بقصد أن تنشر على الناس وتذيع بينهم. في ما يتعلق بنشر الرسائل الخاصة المتبادلة بين الكتاب والأدباء، وسواء كانت هذه الرسائل متبادلة بين اثنين من جنسين مختلفين أو اثنين من نفس الجنس، فهي لا تكتب بقصد النشر. لذا قد لا تراعى فيها مسائل الدقة والتجويد التي تراعى في المواد المكتوبة بقصد النشر. شخصيا لست ضد نشر الرسائل المتبادلة، مهما كانت خصوصيتها. فهي، في نهاية الأمر، نوع من الأدب ولها أهميتها من الناحية التاريخية والاجتماعية والنفسية، إلا أن الأمر يثير التباسات قانونية وأخلاقية. لأنه إذا لم يكن الطرفان حيين واتفقا على النشر، فإن نشرها من أحد الطرفين عند غياب الطرف الآخر عن عالم الأحياء يعد تصرفا من جانب واحد. فمن يدرينا أن الطرف الغائب يرضى أن تعرف عنه جوانب معينة كان يداريها في حياته، أو كيف سيكون وقع هذا على أقاربه من مثل زوجته وأبنائه وأخوته. هناك أيضا درجة التسامح الاجتماعي، كما هو الشأن في مجتمعاتنا، التي لا تتقبل وتتفهم الأمور المتعلقة بالمسلك الشخصي، مثل العلاقات الجنسية وتعاطي المشروبات الروحية، والميول الجنسية، وهي جوانب قد يتم الحديث عنها صراحة في مثل هذه الرسائل.

الشاعر عمر عبدالدائم

لست مع نشر الرسائل الخاصة للمبدعين بعد وفاتهم. ذلك ﻷنني أعتبر هذه الرسائل جزء من خصوصية أصحابها، ولاتعني وفاتهم انتقال حق نشرها ﻷي شخص حتى وإن كان ذلك الشخص هو من كانت موجهة إليه في اﻷصل. وحتى لو كانت تحمل في طياتها لغة ابداعية… فالتحجج بقيمتها اﻹبداعية لايمكن قبوله ﻷن مرسلها كان باستطاعته نشرها ولو بعد ادخال تعديل عليها.. إن نشر هذه الرسائل الشخصية يمكن اعتباره شيئا من خيانة اﻷمانة أو كشف اﻷسرار… وهو في معظم اﻷحيان لايكون إلا للتكسب المادي من خلالها أو لكسب الشهرة… أو التشهير. ولا فرق في هذا بين المشاهير والمغمورين.

الأديبة عزة المقهور

أجمل ما يصدرعن الكاتب أو المبدع تلك الأوراق التي يكتبها عن حالته الشخصية، ورغم أن كل ما يكتبه المبدع له علاقة بشكل أو بآخر بما يمر به من حالات أو علاقات أو مواقف أو خلافه، إلا أن الافصاح عن الحالة العاطفية التي يمر بها تكون ذروة الإبداع من وجهة نظري، مما يكون في عدم نشرها حرمان للأدب من جهة وللقراء من جهة أخرى، ومن ناحية أخرى فإن مثل هذه الوثائق عادة ماتنشر بعد مرور زمن، لذا فإن تداعياتها وارتداداتها غالبا ما تكون محدودة.. فالزمن كفيل بإمتصاص كل شيء، علماً بأنها يمكن أن تدخل في خانة الوثائق التاريخية التي عادة ماتنشر بعد زمن، لذا يمكن أن تستخدم ذات الاسباب المتعلقة بالوثائق التاريخية مع هذه المنشورات، أيضاً لا بد من أخذ التطور التكنولوجي والمعلوماتية بعين الإعتبار، فأين الخصوصية اليوم في عالم الفيس والانستجرام والتويتر، إن مفهوم الخصوصية ذاته قد تغير، والمجتمعات التي لا تتغير ولا تنفتح هي مجتمعات تعقد حالتها فتتأزم لأنها تعيش في شقاق مابين واقع مفروض عليها وبين قيود موروثة.

الأديب محمد الترهوني

كتب كارل ماركس في رسالة إلى فريدريك إنجلز عام 1852م يقول: “منذ اسبوع وصلت إلى ذلك الحد المُفْرِح الذي عجزت عنده عن الخروج بعد أن رهنت معطفي” وفي رسالة أخرى في نفس العام: “خلال الثمانية أو العشر أيام الماضية لم أكن أُطعم الأسرة سوى الخبز أو البطاطا، غير أنه بات من المشكوك فيه اليوم أن أتمكن من الحصول على أي منهما”، بالتأكيد لم يكن ماركس يصف لنا و صفات أطباقه في هذه الرسائل، بل كان يتحدث عن أن الحياة ليست لها تلك الأثداء السخية التي يتحدث عنها الأغنياء، لقد خبأ ماركس هذا العذاب في جيب إنجلز صديقه، فهل يمكن لوم إنجلز على أساس أخلاقي لنشره هذه الرسائل التي تحكي كابوس الفقر المرعب حتى وإن كان في ذلك شيء من الإرادة الطيب؟ إن الإجابة عن هذا السؤال ليست شيئا سوى الحديث عن الأدب، لأن نشر مثل هذه المراسلات هو الوسيلة الوحيدة لجعلها تعمل في الواقع، لجعلها طقس علني حميم يقع تحت رحمة طلبات دور النشر التي لا تنتهي، إن الأدب هو هذا الطقس، لكن التمرد والإدانة تحتاج إلى ضمير المتكلم الذي يعبر عن الولاء للذات، كيف يمكن نشر ضمير المتكلم في رسائل بين كاتب وكاتبة دون تدخل الأدب، دون تحويل اللحظة الخاصة إلى نص عابر للمسافة العامة، دون صرف الذات وتحطيم الحميمية الضيقة للخاص، لا يمكن النظر إلى هذه الرسائل إلا كوثائق تاريخية لا تحكي عن وصف صحن حساء أو عن كيفية الحصول على الخبز والبطاطا، أو النظر إليها ككتابات لمنح المتعة أو الفائدة لقارئ ما، إنها فاصل في حياة الكتابة نفسها، فاصل الكتابة فيه ترتاح من إثارة الإعجاب، ترتاح فيه من أن تكون فعلا خطيراً أو محزناً، ونشر مثل هذه الرسائل يخرجها من هذا الفاصل لتكون خطيرة ومحزنة ولا وجود فيها لأنانية الكاتب، إن الرسائل بين كاتب وكاتبة ما هي إلا إنشغال بالموت بطريقة حميمة وخاصة، ونشر هذه الرسائل ليس سوى إخراج لجثة هذا الموت الحميم من قبره ليظهر وجهه المرعب والقبيح في طقس علني وفاضح.

الشاعرة هيام كامل عراب

عندما أفكر بالطرح أجده شكلاً من أشكال الجمال الإبداعي المختزل في رسائل حوتها كتب عدة عربية وعالمية ترجمت لنا بسياق مختلف فيحضرني آرثر رامبو وأنا اقرأ له الآن فكم من آرثر رامبو بيننا ليقفز بكامل مجونه نحو كسر المألوف لينشر لنا رسائله وعنفوانه وتجربته الخاصة جداً لتصبح فيما بعد الأكثر عمقاً وتأثيراً، السؤال هنا هل نحن بقادرين على رسم صور جمالية إلى هذا الحد من الشفافية؟ السؤال المطروح هنا يأخذني إلى تصور لم يألفه المناخ الثقافي الليبي ولم يذهب بمداه بعيداً إلا قلة دأبوا على كسر قوالب النمطية وذهبوا به نحو آفاق لم يفتحها لنا غيرهم، فكم من هؤلاء بيننا اليوم؟. لم يطرح لنا الادب الليبي في هذ السياق تجارب سابقة لأدباء نقلوا لنا رسائلهم وشاركونا متعة القراءة كما فعلت غادة السمان ودأب على قراءة هذه الرسائل جيل بأكمله وتناولها بنهم لربما لأننا مجتمع منغلق حتى على مشاعره وحتى بين شعراءه وكتابه فأنا لا أكاد أتصور بأن الحب لم يجمع بين أي من مبدعينا ولكننا وفي تصوري الخاص لن نقفز إلى هذا السياق لخصوصية طرحه ولإفتقارنا لشاعريته الكاملة.

____________________

نشر بموقع ليبيا المسقبل

مقالات ذات علاقة

استطلاع.. ماذا يقرأ ويشاهد الليبيون في رمضان؟

المشرف العام

هل أجحف النقد حقا أمام زخم الإصدارات؟ ولماذا صمت النقد طويلا؟

حنان كابو

المكتبات العامة والمراكز الثقافية…إما منهوبة وإما ملاذا مريحا للعناكب والحشرات

مهند سليمان

اترك تعليق