المقالة

أخذوا الفديَة وتركُوا لنا إيبُولا…!

نجوى وهيبة

القرصنة الإلكترونية
عن الشبكة

ترتبُك الحكوماتُ في دولٍ مُستقرّة وتدخل إدارات مؤسساتها الكبرى في حالة ذعر بعد اختراق فيروس wannacry # لأنظمة بياناتهم وطلب فديات ضخمة مقابل الافراج عن المواقع والبيانات. أكثر من 200 مؤسسة تعرضت لشلل تام في أنظمة تشغيلها بسبب هذا الفيرُوس، وانشغلت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي بمتابعة ما يحدث فيما يُعد أكبر عملية قرصنة إلكترونيّة في العالم.

بالتزامن مع تفشي الفيروس “الفدية”، يتفشى في ركن ٍ آخر من العالم بسُرعةٍ وباء الكوليرا في اليمن الذي يعاني الفقر والحرب وغيرها من المصائب، وبرغم أنّ الكوليرا تُسببها بكتيريا وليس فيروس، وهي بكتيريا مُعدية معويّة قاتلة سريعة خاصةً للأطفال، يصعب السيطرة على تفشيها، يُعد انتشارها في بلد مؤشراً على غياب التنمية والخدمات الأساسية، إلا أنّ الفيروس الأول الذي هدّد خصوصية وأمن المؤسسات والأفراد ولم يهدد الأرواح، يظلُ أكثر أهميةً وخطورةً بالنسبة للكثيرين

لن أتحدث هنا عن الجانب الحماسي من لوم العالم “المتخاذل” لعدم تبرعه للدول النامية، ولا في سياق مُناشدة العالم “القاسي” “الجشع” بأن يضع حداً للكوليرا في بلدٍ لا يعني الكثيرين ولا حتى بعضَ جيرانه، كما أن المُساعدات والمَعونات ثبتَ أنها ليست كافية وحدها ولا تفيد كثيراً عندما يكون هناك فسادٌ مالي وإداري متغلغلٌ وولاءات خارجية عميقة تتحكم في مقاليدِ الأمور وغيابٌ للاستراتيجيات التي تحققُ فائدة مُستدامة وتنميَة من أيّ قرش يُدفع في أي بلد ليس اليمن فقط، كما أنّ التجارب برهنت أن مساعدات الغرب لا يكون دافعُها العطف والإنسانية، لذا فغالباً يكون التعويل على حل المشاكل من الداخل أفضل.

بكتيريا الكوليرا سبق وتفشّت في اليمن الشتاء الماضي وتمت السيطرة عليها بعد معاناة الناس هناك وفزعهِم، كما عانت هذه البلادُ وغيرُها من الأزمات والمجاعات وموت الرضّع ولم يساعدها أحدٌ مساعدةً تحلّ أزمتها، وليست هي فقط من تعاني فهناك أزمات وموت ونزوح في بؤرٍ كثيرة من المنطقة، وإن بقينا في سياق الفيروسات والبكتيريا المرعبة فهُناك إيبولا أيضاً التي سجلت بعض الإصابات هذا الاسبوع في دولةٍ نامية ثانية هي كونغو كينشاسا.

ما يشدّني في كل هذا، هو كم التغيرات التي تفرضها العولمة كل يوم وتكشفها عناوين نشرات الأخبار دون أن يقصدَ منتج النشرة غالباً، فالعناوين والأحداث تفرض نفسها، وطبيعة عمل غُرف الأخبار اليومي الذي يتسم بالسرعة والتسابق كثيراً ما يُغيّب هذا النوع من المقاربات.

اليوم قد يفزع العالم كلُه والناس كلُها لفيروس إلكتروني أكثر من فيروس يقضي على البشر، لا سيما إن لم يكن هذا الأخيرُ من الفيروسات التي ستُنتج لها منظمة الصحة العالميّة أدويةً ولقاحات وستُجبر الحكومات على شرائها وإنفاق الأموال عليها، في سيناريو يذكَرنا بعطار القرى الذي يبتزّ السكان لشراء عقاقير أنتجها هو ويريد بيعها لهم رغماً عنهُم.

القرصنة الإلكترونيّة ليستْ جديدة، والهجومُ على مواقع إلكترونية أمنية وحساسة ليس جديداً، برغم أن الهجوم الأخير كان مختلفاً في النطاق الواسع الذي استهدفه دفعةً واحدة، وفي صعوبة التغلب عليه، وفي طلبه فديةً.

لكنّ ما يُكسب القرصنة الإلكترونية هذه الهيبةَ والانبهار أنها من بين الأمور القلائل التي يمكنها أن تهزّ احترازات الدول والحكومات المستقرة والقويّة والآمنة، مهما كانت درجة تحصينها، فتُعطي بذلك للدول النامية -مثلَنا- أملاً في أن هناك سلاحاً غير باهظ، يمكن أن يعكّر على تلك البلاد المرفّهة ولو قليلاً، مع أنّ الكثير من هجمات القرصنة الالكترونية تحدثُ من دولٍ كالصين وروسيا وتركيا والمجر.

بعض تلك الدول المستقرة المُدلِلة لشعبها تُتهم بأنها تموّل النزاعات في دول أخرى تعيش الغلاء والفقر والحرمان كاليمن مثلاً وغيرها، لذا يكون هجوم إلكتروني كهذا فرصة للتشفي بالنسبة للمحرومين والناقمين على تلك الدول، وكأنّ القرصنة ستُلهيهم عن تمويل الحروب في بلداننا، أو كأنّ أولئك يموّلون النزاع على أرضنا دون تواطئ من حكام الداخل…!

هذا العالم الرقمي الذي لا يمكن لمسُه ولا الشعور به، تحكّم وتغلغل في حياتنا ووفر لنا من الأمن والنظام والخصوصيّة ما يجعلُ اختراقَهُ الثغرة الأخطر والأكثر حساسية، وكلما تطورّت الخدمات والبنية التحتية في بلادٍ ما، كلما زاد اعتمادُها على التقنية والتكنولوجيا.

طلبُ “فدية” مقابل الافراج عن البيانات جعل البيانات والأموال أشبه بالبشر المأسورين أو المُحتجزين في عمليّة نوعيّة داخل مقرٍ مُهم، والدفع يكون عبر آلية يصعب تعقُبها ويتمُ بـ “البيتكوين” دون دفاتر شيكات أو حقائب جلدية سوداء كما في الأفلام، ما يجعل كل ظروف عمليات “الاختطاف” هذه فريدة من نوعها، كما يُنذِر بتغير شكل عصابات الابتزاز في العالم.

في هذا الهجوم الفيروسي الأخير هناك شركات بالفعل دفعت الفدية التي وصلت مع إحدى الشركات إلى ما يعادل 17 ألف يورو وفي حلات أخرى أكثر من ذلك، وتم بعد دفع الفدية تحرير البيانات عبر إرسال شيفرة إلى صاحبها وشُكرٍ على دفع الفدية دون مراوغة. لكنّ تحريرها بهذا الشكل إلى جانب كونه مُكلفاً مادياً، يجعل احتمالية معاودة هذه القرصنة مفتوحة دوماً ما دامت قد حقّقت الغاية وتحصلت على فدية، وكلما تطور الأمن الالكتروني، تطورت معه طرق القرصنة وطرق إيجاد ثغرات ومنافذ، إنهُ قانون العلم والاكتشاف في كل مجال.

في إحدى التغريدات الطريفة على تويتر ضمن هاشتاغ #Wannacry كتب أحد المغردين الليبيين أنّ الفيروس حاول اختراق منظومة تشغيل في بنك ليبي للسيطرة على الحسابات فوجدها معطلة وكان عليه الانتظار لساعات قبل أن تعاود العمل فغير الفيروس رأيهُ ورحل…! في إشارة إلى بطء وتوقف منظومات التشغيل لساعاتٍ حتى أثناء ذروة العمل واصطفاف الناس لقضاء حوائجهم، حتى تحّول عطل المنظومة لمبرّر شهير يوضع بسببٍ ودون سبب في الدوائر الحكومية التي تقدم الخدمة للمواطنين. وربما في سياق كهذا – وأقصد سياق القرصنة الالكترونيّة -يصيرُ التخلفُ التكنولوجي والبدائيّة في أساليب حفظ البيانات والتشغيل نعمةً، على الأقل إرضاءً لأنفسنا.

حتى الفيروسات والبكتيريا تصيرُ انتقائيّة تبعاً لمن يحكُمنا؛ فثمة حكامٌ يجلبُون لشعبهم الكوليرا والإيبولا وآخرون يجلبون “الفدية” ويدفعونها..!

_____________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

احترم رأيك وأن خالفتني

المشرف العام

احمل كفنك واتبعني

منصور أبوشناف

رياحين العيد

زهرة سليمان أوشن

اترك تعليق