طيوب البراح

آخر حكاية من حكايات شارعنا

محمد الطيب الهرام

من أعمال الفنان المصور أحمد السيفاو

شارعنا أشبه بدولة مترامية الأطراف، تعج بالثقافات المختلفة والمتنوعة، في شارعنا ستجد التاجر صاحب المال الوفير، والمسكين والفقير، ستجد بائع الممنوعات، وشيخ الدين المستقيم، ستجد الشاب العاطل عن العمل الذي يزعج الجيران بصوت سيارته المتهالكة والتي تصدر ضجيجا، وتصرخ مكبرات الصوت فيها، بأغاني الراب والمرسكاوي.

في شارعنا هناك ثلة من الشباب لازالوا يهتمون لأمر التراث والشعر الشعبي، وينتقلون من قرية إلى أخرى لملاحقة جلسات مشاهير (صوب خليل) للسهر معهم على أهازيج (غناوي العلم) والتي عادة ما تكون (عالفاهق).

في شارعنا ستجد الشاب الطيب ذو الشخصية الهادئة، قليل الكلام والاختلاط، وستجد الطالب الجامعي المهتم لأمر الدراسة والمغرم بالأدب والثقافة، ستجد شيخ القبيلة العاقل صاحب الحكمة، وآخرون يشترون المشاكل مع الناس بمقابل زهيد.

في شارعنا هناك الجار الذي يهتم لأمر جيرانه ويعاونهم بما استطاع، وآخرون عكس ذلك…

شارعنا دولة ينقصها علم ونشيد وحدود فقط.. مصدر الحكايات في شارعنا، (النقشة) رافع صاحب الشخصية الفريدة من نوعها، يبلغ من العمر أربعين حولا، و هو أعزب و عاطل عن العمل، يقيم في شقة صغيرة بها غرفتين و حمام و مطبخ، و ليس له من الأقارب سوى أخ متزوج يسكن بالحي المجاور و لا يهتم لأمره، أما والداه فقد توفاهم الله منذ زمن بعيد… يجلس رافع مع كل إشراقه ليوم جديد، عند (الشوكة) في زاوية الشارع، يقبل سجائره من نوع (كريلا)، و يصافح وجوه المارة بنظراته الثاقبة، يعرف حكاياتهم و ما يجول في خلدهم، يعرف أين هم ذاهبون و أين يعملون و كم يتقاضون من الأجور، يعرف قصص العشق و الغرام بين أبناء الشارع من الشابات و الشبان، يعرف الأطفال و آباؤهم و تاريخ ولادتهم و أهل أمهاتهم، رافع يعرف تفاصيل التفاصيل في كل شيء بشارعنا، شخصية كلاسيكية يعشق الاستماع لأغاني بوعبعاب، و رمزي شهوب و تونس مفتاح و محمد حسن … يحلم بأن يشتري (أكروزل) يوما ما، و يكسب ألف رأس من الإبل… يفضل من الطعام المثرودة و المقطع و الرز المبوخ، و يجيد تحضير الأكلات الشعبية بإتقان… له مظهر خارجي يمزيج ما بين الحاضر و الماضي في اللباس و تسريحة ما بقي من شعر رأسه… ملتحي ذو بشرة بلون أسمر، وله ملامح شيخ، و عينان سودتان مع حاجبان كبيران متصلان، طويل القامة، نحيف الجسم، له وشم (دقة خضرة) أفعى على ساعده الأيسر…

رافع في شارعنا له مكانه خاصه في قلوب الجيران، فالجميع يحبونه، الأطفال يجدون فيه العم الحنون، و للشباب الصديق الوفي، مكانة رافع في شارعنا مكانة كبيره لا يحظى بها أي شخص آخر… و بما أن أخبار الشارع لا تذاع في التلفاز و لا تنشر في الصحف، كانت شقة رافع بمثابة الوسيلة الإعلامية المحلية التي توفر لنا كل ما نحتاج من أخبار و معلومات، فالجميع يقصدون رافع لمعرفة أخبار الشارع كل يوم … عندما تطغى العتمة و تبرز مصابيح السماء الدنيا، يبدأ شباب الحي في التوافد، فرادا و مثنى لشقة رافع، قاصدين السهر و معرفة آخر أخبار الشارع و الاستمتاع بقصص رافع الجميلة… تتجه الأعين و القلوب نحو رافع عندما يبدأ في قّص حكايات الغرام السابقة في شارعنا، وقد يحرج أحدنا، بأن يكون والده و والدته هما طيرا الغرام في هذه الحكاية، إلا أن أسلوب سرد رافع ومزاحه اللطيف يجعل ابن طيرا العشق، يتقبل الأمر برحابة صدر و مزاح و ابتسامة، رافع أيقونة و(نقشة) لا مثيل لها…

ذات مساء بينما كان رافع يمارس عادته في الجلوس عند (الشوكة)، سقطت عليه رصاصة عشوائية مجهولة المصدر، أصابته في الرأس أعلى الأذن اليمنى، سقط أثرها وغرق في بركة دم، أسعفه اثنان من شباب الشارع إلا أن روحه الطاهرة غادرت جسده المغطى بالدم، قبل وصولهم للمستشفى… لقد توفى رافع … رحل نقشة الشارع، غادر أب وأخ وصديق الجميع، ذهب قبل أن يحقق شيء مما يحلم… في جنازة مهيبة، وسط ندب وبكاء من سكان الشارع والحي والأحياء المجاورة، شيع جثمان رافع إلي مقبرة الرحمة.. احتضنته اللاحائد… وتوارى رافع عن أعيننا للمرة الأخيرة…

غادر رافع وغادر معه كل شيء جميل في هذا الشارع… إلى يومنا هذ لم يعرف قاتل رافع، قاتل بهجتنا وقاتل ابتسامة أطفال شارعنا، قاتل الفرحة لم يعرف إلى هذه اللحظة… رصاصة واحده عشوائية قتلت شارع بأكمله وعبثت بقلوبنا جميعا … الحروب حتى في فترة توقفها تحصد الأرواح… تلك الرصاصة كانت القاضية لحكاية شارعنا … لا حكايات بعد هذه الحكاية… هنا توقفت حكايات شارعنا …

مقالات ذات علاقة

رصاصة رحمة

المشرف العام

حكاية أرض

المشرف العام

رسائل من / إلى

المشرف العام

اترك تعليق