شخصيات

في ذكرى التي لم تعد وحيدة (2/2)

الكاتبة.. شريفة القيادي
الكاتبة.. شريفة القيادي

في نهاية الجزء الأول من هذه القراءة، وقفت عند تلك اللحظة في قصة (السعاده) التي أوحت إليَ  أنني في رحاب قصة عادية تنتهي نهاية سعيدة، وأشرت إلى تلك الرغبة عند المؤلفة الواقعية (شريفة القيادي) التي تحب الإفاضة والشرح.

(ولعله من هنا تجئ تلك الزيادات في نهايات بعض القصص لتحيلها إلى حكايات مترهلة، كل شئ واضح) لأن الكاتبة (لا تقف حيث ينبغي الوقوف، بل تصر على إضافة لقاء، أو الإفاضة في شرح حالة أو موقف أو في تفصيل ما هو متوقع ومعروف) فسنكتشف أن هذه الساردة المتكلمة التي قالت عن لحظتها (أنا سعيدة جداً لأنه يوم متميز عن باقي حياتي) [ص75]،  سنكتشف أنها تحديدا، وهي تروي لنا قصتها في هذا اليوم (واليوم… يوم عقد قراني، أنا الآن على شاطئ البحر) [ص78].

هنا سنجد مكانا تحدد، مكان له رمزيته، فللفظة.. البحر.. حمولاتها الكثيرة، وحين نعود إلى بداية القصة واللقاء سنجد أن ثمة.. حذاء.. وأن (هو) من اقترح الحذاءَ (فلم أجد مناصاً من أسير معه إلى حيث أراد… وأوقفني أمام واحد… ربما كان جميلاً، وربما كنت قد مررت عليه قبلاً، وربما كنت قد مططت شفتَيَ في احتقار سابقاً، لكنني الآن أشرت له وأخذته بلا كلمة) [ص 75/76].

والبحر والحذاء يشيران إلى نقيضين، الحذاء (الذكر الأول) حيث المسار المعروف والخطوات المحددة، هو مجرد حذاء نرتديه وببساطة قد نخلعه، الحذاء الذي ربما مرت قربه ولم يعجبها ولكن حين اختاره هو (أشرت له وأخذته دون كلمة)، في هذه الجملة نواقيس خطر تدق دعمتها جمل أخرى ومواقف في متن هذه الحكاية، وجميعها أفضَتْ إلى هذه اللحظة حيث هي تقف قدام البحر [ص 78]، البحر نقيض الحذاء حيث الإتساعُ والرحابةُ، الأفُقُ المترامي، فضاء الحلم والحرية (أنا على شاطئ البحر… على حافة مرتفع صخري أحبه دوماً، وأزوره في كل فرصة تسنح لي) [ص 78]، إذاً هو البحر، مكان اعتادت أن تجئ إليه، ومرتفع صخري تحبه دوماً، تُرى ماذا تفعل في هذا اليوم تحديدا؟، (وأنا أفكر وأفكر) ماهي الأفكار التي جاءت بها إلى صديقها البحر لتعلنها وتحاول أن تبحث فيها؟ عاشقة نالت من تحب، من قالت لنا (عشت له ولحبه بكل جوارحي)، تراها لماذا جاءت إلى البحر لتقف على حافة مرتفع تحبه وتفكر؟،  (كنت سعيدة، ولكن ماذا بعد؟) [ص 78]، إن تلك الإشارات التي الكاتبة في ثنايا السرد تبدو واضحة الدلالة، يزيدها وضوحاً هذه الجملة (وماذا بعد؟)، ولنلاحظ دوران الزمن، كانت تخبرنا وتضعنا في عين اللحظة بضمير المتكلم، ولكنها صارت تقول (كُنْتُ) وهو فعل ماض، هي تنسلخ عن لحظتها هذه التي كانت تقول عنها (لكم أنا فَرِحَةٌ… اليوم يوم خالد في حياتي) [ص 75]، لتصبح هذه اللحظة من الماضي (كنتُ سعيدةً… ولكن ماذا بعد؟) لم أستغرب لحظة الوعي هذه وإن فاجأتني، فسياق القصة كما ذكرت يبدو مثالياً، يبدأ من العنوان (السعادة) وقصة حب تنتهي بزواج، لكن الإشارات التي في متن الحكاية جعلت هذه اللحظة ممكنة، هذا التساؤل، هذه الحيرة صادقة، إن هذه النقلة في الزمن أضفت حيوية، فخلال القصة لا نشعر بأن (هناك امتداد زمني، فهي تبدأ وتنتهي في لحظة واحدة)*، لكن فعلا بسيطا (كنت) قلب هذه المعادلة وأضفى بعداً جمالياً ودلالياً، ونقل القصة من حالة الركود إلى فضاءِ يعج بالإحتمالات (كنت سعيدة، ولكن ماذا بعد؟)، صاحبة القصة التي تحكي لنا، امتلكت بجدارة صفة الساردة، ثمة سرد بسيط ولكنه عميق، تساؤلات حيرى وحارة (ماذا يحدث بعد هذه السعادة، وماذا ستغير الدنيا من وجوهها إذا أنا تزوجت) [ص 78]، دخلت أفعال أخرى ماذا يحدث؟، ماذا ستغير؟ هما فعلان (يحدث… ستغير) يضمران تلك الحرقة التي تجعل فتاةً  سعيدة.، تقف على حافة مرتفع قبالة البحر وتفكر، كانت سعيدة، ماذا يحدث، ماذا ستغير؟، لحظة التفكير تنبش أكثر (وإذا ما انتقلت لبيته أعايشه وأخدمه… وأشاركه، ماذا يحدث؟) [ص 78]، هذه التساؤلات التي تنبش عقلها وتحفر في روحها، لماذا جاءت في هذه اللحظة؟ في غمرة السعادة، وهنا أمام البحر على حافة مرتفع تحبه؟

هي أسئلة أواجه بها النص القصصي الذي كتبته مبدعة في التاسعة عشر من عمرها هي (شريفه القيادي) والتي لأنها في هذا العمر ستجيب قائلة (لا أدري) [ص 78].

وسنعذرها لأنها بنت في التاسعة عشر، وأحاول أن أجتهد في معرفة إجابة لهذه الأسئلة الحيرى… لماذا وأنت في غمرة بهجتك وقفتِ تتساءلين، أصبحتِ في لحظة فارقة ضاجة بالأسئلة، تفكرين، إنتقلتِ من الرتابة والإعتياد والتشيؤ، إلى كائنة تبحث عن معنى وجودها؟، دعيني أخبرك بمحاولتي الإجابة عن أسئلتك.

فأنت في العام التاسع عشر وبلادك في الخامس عشر، هو عام 1966 بلاد تتكون، تتضح معالم الدولة الحديثة فيها ببطء، لكنه يشي بملامح تلك الدولة، وأنت ذلك الجيل من الطالعات، يرقبن تلك الدولة ويحلمن بدور كبير فيها، لذا ما كان لحذاء جميل أن يسرقك من هذا الحلم،  ما كان لدرب مرسوم سلفاً أن يغريك بالإستمرار فيه، لهذا وقفتِ تفكرين (الصخور تجذبني… الماء، ماء البحر يتكسر بأمواج حانية على الصخور… والرغوة تتلاشى وهدير البحر يبعث القشعريرة في جسمي… وأغمض عينَيَ… هناك شئ ما يجذبني… هناك الراحة ولكن كيف؟) [ص 78].

كل الأفعال صارت تتململ (تجذبني… ينكسر… تتلاشى… يبعث… أُغمض) ولنلاحظ هذه الحمولة في جملة (الماء، ماء البحر ينكسر بأمواج حانية على الصخور، والرغوة تتلاشى) ثمة حمولة الماء… ماء البحر ينكسر على الصخور، ثمة صخور وليس رمال، كلمة (صخور) وما تحمله من قوة وصلابة وقسوة، كأنها في تلك اللحظة من التفكير تشاهد قسوة تقاليد مرسومة وصلابة مجتمع تجاه من يخترق منظومة أعرافه (هدير البحر يبعث القشعريرة في جسمي) خلال القصة هذه هي المرة الأولى التي تشير فيها الساردة إلى جسمها، لانعرف ملامحه، لا نعرف طولها ولا أي ملمح آخر من ملامحها، لكنها في هذه اللحظة الغنية، تشعر بهذا الجسم الذي هو عنوان كيانها، هي لم تعد معنية بالكلام معنا والحديث إلينا، لقد تركت دور (المتكلمة) لتكبر وتغدو (ساردة) فاعلة (وأغمض عينَيَ… هناك شئ ما يجذبني… هناك الراحة… ولكن كيف؟) [ص 78].

لو أن الكاتبة تركت هذه (الأنا) في مواجهة قدرها، تركتها في لحظتها الدالة، تواجه مصيرها، إذا لمنحتني كقارئة متعة المشاركة (المعاناة في إكمال القصة، في شحن الخيال مرة إثر مرة)* لو أنها وقفت هنا لكانت هذه القصة (نفاذة، مقلقة، دالة ومدهشة)*… لكن مفاجأة كانت في إنتظاري، كنت أحسب قصة (السعادة) قصة عادية، فمنذ عنوانها تشي بأنها قصة عادية، لكن المتن حمل إشارات أفضت إلى نهاية دالة وضاجة، نهاية جعلتني أفكر في إحالات العنوان ذاته (السعادة) بمفهومها الفلسفي والموضوعي، بل وحتى حمولتها الوجودية، ولكن الكاتبة الصغيرة (شريفة القيادي) أرادت أن توضح، أن تجعل لهذه القصة نهاية (وعندما أفتح عَينَيَ ترعبني رهبة الصخور، وتناديني في حنان) [ص 78]… الصخور هنا هي قسوة المجتمع الذي لن يرضى أن تفلت أنثى من مسار محدد، وهو يغلف هذه القسوة (تناديني في حنان)، هذا الحنان في لمسة الأبِ الحانية، وصبر الخطيب أمام اعتراضاتها، وقصة الحب الجميلة، وتنكفئ الساردة التي عادت إلى مقعد المتكلمة (وفي انقياد أُلقي بنفسي من حالق لأتفتت على الرؤوس الفضية المدببة، وأتلاشى في المياه، وأضيع في العتمة، وليس لي من آثار) [ص 78].

المكان لم يعد البحر بمحمولات الحرية، صار البحر / الذَكَرَ الآخَرَ / مجتمع يأكلها تنصاع له وتتلاشى في خِضَمّه، وتصبح مجرد رقم، مجرد واحدة (من ملايين الرجال والنساء) [ص 75]، تضيع في العتمة وليس لها من آثار.

يواجهني الآن سؤال حارق، تُراها تلك البنت المتوهجة قد حدست الآتي؟!… سأخبرها سراً، إنها جعلت لهذه القصة نهايتين، نهاية جعلت منها تأريخا حقيقيا لبداية الكتابة النسائية ورسوخ قدمها في عالم القصة القصيرة، ونهاية تعلن فيها أن هناك (صخوراً) لن تدع لها مجالاً كي تعلن نفسها باكراً، إنها قاصة متميزة، ذات بصمة في المشهد الإبداعي الليبي.

تقول السيدة التي عبرت مفازة القحط إلى جنات المحبة، في شهادتها (أما الذي حققه جيلي من الكاتبات في ليبيا فهو، إعتراف الليبي وغيره بوجود قلم نسائي ليبي.. شاء أَم أبَى.. ولذلك فأنا أسعد شديد السعادة عندما أسمع أو أرى مؤلَّفاً لواحدة منا، حتى لي أنا، لأن هذا يعني قدرة موجودة في إمرأتنا الليبية، هذه القدرة بعثت المكتوب الذي لا تتحرج من أن يطلع عليه أيُ أحد، وهذه مسألة في غاية الأهمية، لأنها تولد الثقة في إمكاناتنا النسائية المهدورة، والمسفوح دمُها في أحواض الغسيل وأفران المطابخ).**

هذه القراءة والتحية للمبدعة شريفة القيادي، أهديها لإبنتها الحبيبة.. شارة القاضي.. وأقول لها: سنلتقي ياشارة في ذكرى محبتها، وستعزفين على البيانو أنغاماً حالمة وضاجة، أنغاماً ليبية مثلما أرادتك هي، السيدة التي باكراً عرفت الطريق وشقت الدرب، وتركت إرثاً من الفن والجمال والحب لا يضاهَى.

ــــــــــــ
هوامش

1- ندوة الكتابة النسائية، أقامتها رابطة الكتاب والأدباء في شهر مايو 2000 بمركز جهاد الليبيين بطرابلس، وقدمت فيها الكاتبة شريفة القيادي شهادة عن تجربتها الإبداعية.

2- مائة قصة قصيرة، شريفه القيادي، منشورات 1997 ELGA.

3- الفن والواقع في قصص شريفة القيادي، دكتور نوفل نيوف / مجلة الفصول الأربعة، السنة الثالثة عشرة، العدد 74، ديسمبر 1994 ص 14 – 28.

مقالات ذات علاقة

إسماعيل العجيلي…وجه المدينة الطازج

مهند سليمان

كامل المقهور…قاص بدرجة سفير

مهند سليمان

ترجمة شيخنا الشيخ الحسين الفطماني

المشرف العام

اترك تعليق