حوارات

الناقد: محمد الترهوني/ المدرسة المشرقية في النقد لم تقدم للثقافة الليبية شيئا

الناقد الليبي “محمد عبد الله الترهوني”..:

المدرسة المشرقية في النقد لم تقدم للثقافة الليبية شيئا

حاوره: خالد المــهير

الناقد: محمد الترهوني

يقف الناقد الليبي “محمد عبد الله الترهوني” اليوم في صدارة المشهد الثقافي الليبي، بدراساته ومقالاته ومنهجه النقدي المنفتح على المدارس النقدية الحديثة. والجديد الذي يقدمه يصدم كثيرين على الساحة الثقافية في بلده، ينتظرون من الناقد أن يكون مادحا، لا محللا ومفككا لنصوصهم.. في هذا الحوار يتحدث الترهوني عن مشروعه النقدي وعن الحركة الثقافية في ليبيا:

* بداية كيف يكون النقد؟ وما هي الأدوات التي يجب أن يتسلح بها الناقد اليوم في بلادنا إذا أراد الاشتغال على النصوص المطروحة من وجهة نظرك؟

– لا اعتقد أن باستطاعتي الإجابة عن الشق الأول من السؤال “كيف يكون النقد”، ولكن ربما الإجابة عن الشق الثاني من السؤال تكون إضاءة على كيف يكون النقد. لقد أدى الاشتغال في حقل التنظير الأدبي إلى دخول الكثير من الأدوات المنهجية، والمصطلحات، والمفاهيم، بل وكتابات علوم أخرى إلى مجال النقد، فأصبح الناقد معنياً بالأنثروبولوجيا، تاريخ الفن، علم الجنوسة، السياسة، الفلسفة، علم اللغة، التحليل النفسي، علم الاجتماع، التاريخ وغيرها، مما أدى إلى وجود نظرية تدرس الخطاب المنطوق والمكتوب، وتدرس العلاقة بين المعنى، الكتابة، التجربة، فعل الكتابة، فعل التأويل. هذا جعل النقد يبدو جاهزاً لتحليل كل خطاب جاهز ليكون الأكثر قدرة علي مقاومة ممارسة اللغة سلطتها في كل خطاب، وكشف النقد عن نفسه كمغامرة غير معروفة النتائج في كل نص، إعادة لخلق الفكرة في تفككها وتشتتها، التوسط بين التلاشي والحضور بعد احتجاب، إنه في نهاية الأمر فهم لحركة المد والجزر بين السواد والبياض على سطح الورقة.

* يعتقد المبدع في مختلف الأجناس الأدبية أن وظيفة الناقد لا تعدو كونه موظفاً في خدمته. ما هو تعليقك؟

– أنت تقصد مفهوم النقد عندنا، فلم يعد هناك وجود لكلمة جنس أدبي بعدما جعل تودوروف كل نص ينتمي إلى جنس معقد وجنس بسيط مما أدى إلى استحالة رسم حدود لنص ما داخل إطارٍ واحد محدد، فالحدود أصبحت غير واضحة ومتحركة، فالنقد جعل من هوية النص هوية وهمية. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فبعد دعوى بارت لتأسيس علم الأدب ودعوة تودوروف لتأسس علم الخطاب تخلى النقد عن الالتزام بنصوص الأدب، لذا يقول د. طرابلسي أن من مظاهر اكتمال النقد تحرره من التقيد بنصوص الأدب، أما الأدب نفسه فهو يعيش اليوم عالة على النقد، لأنه لم يتقدم التقدم الذي عرفه النقد، ويكفي أن تذكر أسماء كيليلطو، الخطيبي، محمد مفتاح، سعيد بن كراد، رشيد بن مالك لتعلم أن أي نص لهذه الأسماء قد أصبح اليوم أهم من نصوص الأدب نفسها.

* لماذا تعثرت الحركة النقدية الليبية؟ وهل تعتقد أن لهذا التعثر ارتباط بالمناخ الثقافي والسياسي السائد على الساحة؟

– أنا لا أفهم ما تعنيه بكلمة تعثر، أو الحركة النقدية، كذلك لا يمكننا الاتفاق على كلمة مناخ، فأنا لا أعلم أن هناك حركة نقدية عندنا قبل نصف قرن. ببساطة لأنه لم تكن لدينا حركة أدبية بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، بل إننا إلى فترة قريبة ماضية كنا نطالب على لسان الأستاذ “المصراتي” بأن تترك لنا مصر “ابن منظور”، وبحجة أن لديها الكثير من العلماء. كثيرون يضعون اسم “التليسي” كتدشين للحركة النقدية في ليبيا، مع أن الناقد في نظر “التليسي” نفسه مبدع لم يكتمل، وأصبح النقد من بعده عمل إضافي، بإمكان الجميع ممارسته، فالتليسي شاعر وناقد ورفيق شاعر وناقد، وهذا ما تجده عندنا حتى اليوم. إن ما يسمى بالنقد الذوقي الانطباعي، والذي بدأ مع كتابات التليسي النقدية لم يتعثر، بل إن استمرار هذا المنهج في ليبيا حتى اليوم ظاهرة تستحق الدراسة، رغم تعاقب الأجيال، وتطور علم الأدب في أقرب الدول المجاورة لنا (تونس)، ولا أحب أن يعلق تخلفنا في مجال النقد على شماعة المناخ الثقافي أو السياسي، فحديث الناقد الذي لم يكتب دراسة واحدة منذ عشر سنوات، ولا يقرأ كتابا إلا (في العام مرة) عن المناخ هو كلام من قبيل الترويح عن النفس، بينما الحديث عن أسباب التقصير الخاصة، وعدم الكفاءة الذاتية سيكون أنفع في رأيي.

* إلى ماذا تعيد أسباب غياب النقد عندنا ؟

– أعتقد أن هناك سببين، الأول هو الإصرار على استمرار المفهوم القديم للنقد، وهو المفهوم الذي يعيش فيه النقد عالة على الأدب. لقد أصبحت كلمة نص اليوم تعني الفيلم السينمائي، الخطاب السياسي، الأغنية، الإشهار، وأصبح هناك علم للعلامات يحاول أن يدخل في إطاره كل أنواع أنساق العلامات. إن تجاهل مثل هذه المسألة ينتج عنه تخلف الخطاب النقدي. السبب الثاني هو مهاجمة الكتاب لكل طرح جديد بدعوى استيراد الستوكات كما يقوم “منصور بوشناف”، ولا أعلم كيف يصبح مسببوا الحرائق هم رجال الإطفاء، أو بدعوى عدم الفهم كما يقول “العوكلي” الذي يفرض على الجميع فهم الطرح المابعد حداثوي لموضوع الجسد الذي هو في الحقيقة ليس إلا طرح بارتي فوكوي. ثم إذا تعلق الأمر بالنقد فإن الكلام عن الفقيه والأصولي والمرجعية والسديم اللامتناه من الباقات الفكروية يصبح أداة “العوكلي” في قمع الآخرين. أو بدعوى الذاكرة كمرجعية كما يقول الغزالي. والسبب الثاني هو الأهم وهو ما يحتاج إلى وقت وجهد لأنه يتعلق بذوات وكيانات قارة ومتمركزة حول خطابها وتخاف أن يفقد هذا الخطاب سلطته.

* هل يمكن اعتبار محاولاتك النقدية تأسيسا لمشروع نقدي ليبي؟

– هنا أيضاً أشعر بنوع من عدم الراحة أمام قولك مشروع نقدي ليبي. هل تعني أن يكون لليبيا مشروعها النقدي الخاص؟ أو أنها تريد أن يكون هناك ما يسمى بالمنهج الليبي في النقد؟ لا أعتقد أن أحداً يسعى لذلك. ولكن نعم هناك سعي لتأسيس فرع للمدرسة المغاربية في ليبيا، تقف في وجه مدرسة مشارقية مكرسة لم تقدم للثقافة الليبية شيئا، بل هي تستمتع بأن يكون لها أتباع غير فاعلين يجترون ما تصدره لهم. والمقاربات النقدية التي أقدمها أنا والأستاذ محمد المالكي، هي في الحقيقة معنية بعرض ما أنجز في مجال النقد، ولا تقدم نفسها كبديل في الوقت الحاضر، بل تقدم نفسها كطرح مغاير، ومدمر لكل المتعارف عليه في مجال النقد عندنا، إنها لا تؤسس بقدر ما تفتح مجالاً للتأسيس، فهي في حالة صدام مع الأعراف والتقاليد النقدية السابقة، وهذا معناه عدم إمكانية طرح نفسها بشكل طبيعي لأنها في حالة ممارسة نقدية لنصوص تهاجمها بل وتدينها، في حين أن هذا الجهد كان من الأجدى أن يبذل في التعريف بالمدرسة المغاربية الحديثة، أو في الاشتغال على نصوص إبداعية، ولا أنسى أن أشير إلى مقاربات المشاي، المحجوب، إلا أني لا أوافق على إعادة إنتاج خطاب دريداً، فوكو وغيرهم كتنظير في حين أننا في حاجة إلى الممارسة الإجرائية التي تعمق تواجد هذا الطرح.

* يلاحظ في دراساتك الأخيرة العمل على تحجيم بعض الأصوات. ما هي النتائج التي تحاول التوصل إليها؟

– أي دراسات تقصد؟

* الدراسة عن عمر الككلي مثلاً.

– كان هناك اسم أحمد يوسف عقيلة في نفس الدراسة فلماذا لم تطرحه؟ ثم ما الذي يجعلني أسعى إلى إسكات عمل الككلي؟ إنك تربط ما بين النص، المشتغل عليه وصاحب النص، وهذا خطأ كبير. إنني حتى لا أشتغل على قصد كاتب النص، بل على قصد النص نفسه، القضية هي أنني حين أقول أن لون قميصك سيئ، فأنت تحمل هذا الكلام على محمل الإساءة، في حين أن الحقيقة أن قميصك شيء مستقل عنك ولا يعنيك إلا من جهة أنك ترتديه، ومن حقك في هذه الحالة أن تسأل لماذا، فإذا كانت الإجابة أن هذا اللون الداكن لا يناسب بشرتك السمراء فقد أقمت الدليل على ادعائي، هنا يصبح الأمر برمته بعيدا عن المسألة الشخصية، وأنا لا أحاول التوصل إلى نتائج بل إني أشتغل على النصوص لتأخذ حجمها الطبيعي من خلال طرح الأسئلة على هذه النصوص.

* الكثير من المهتمين بالشأن الثقافي يشيرون إلى انعدام الفاعلية الثقافية للمشهد الثقافي الليبي وفي نفس الوقت نلاحظ ارتفاع عدد الإصدارات مقارنة بالسنوات السابقة. كيف تقيم هذه الإشكالية؟

– انعدام الفاعلية الثقافية ناتج عن أن حياتنا الثقافية اليوم هي صورة للحياة الثقافية في تونس، الجزائر، المغرب في منتصف القرن العشرين. إننا بعيدون عن حاضر الثقافة. هناك أسماء تعيش كل مستجدات الثقافة لكنها غير كافية لخلق فاعلية ثقافية. نحن ياعزيزي إلى اليوم ندعو لمجلة الفصول الأربعة بطول العمر لأن موتها معناه توقف نشر إنتاج الأدباء والكتاب. أي فاعلية يمكن أن تحدث إذا كانت مجلة متخصصة في مجال الأدب تخرج إلى الوجود كلما شاء الله ذلك؟ أما بخصوص الإصدارات فقد كان هناك يوم من الأيام اعتبرنا فيه أن الدار الجماهيرية هي السبب وراء عرقلة الثقافة في بلادنا لأنها تنشر المخطوط بعد عشر سنوات، وجاء اليوم الذي أصبحت الدار الجماهيرية فيه مسؤولة عن كثرة الإصدارات. لا. الدار الجماهيرية غير مسؤولة عن كثرة الإصدارات ولا مسؤولة عن ما في هذه الإصدارات من مواد. إن الأمر في الحقيقة يتعلق بمتلقي غير مكترث، ولا يقرأ للكاتب الليبي، وهذا معناه عدم وجود فرز بين ما هو كتابة حقيقية وما هو كلام فارغ. فلا خوف من النشر فالجميع كتبهم مكدسة في بستان الدار الجماهيرية، وأعتقد أن الدار الجماهيرية للأسف هي من يدفع ضريبة هذا التكدس.

* لماذا تحاول الإساءة إلى الرموز في المشهد الثقافي الليبي؟ وهل تتمنى أن تصبح أحد الرموز الليبية في المستقبل؟ إذا جزمنا أن دراساتك تعتبر إساءة؟

– من تقصد بالرموز.

* الفيتوري مثلاً.

– لا أعتقد أن “أحمد الفيتوري” ينظر إلى نفسه كرمز. ثم إني ضد كلمة رموز. لابد أن تعرف أن هناك تاريخا للنصوص لا لأسماء كتاب هذه النصوص، نحن لا نعلم أن “ابن الأجدابي” كان رمزاً لكننا نعلم أنه كان كاتباً رائعاً كتب في علوم كثيرة وأجاد. ولا أعترف بما يسمى رموز الثقافة الوطنية، لأن هذا يجعلنا نبحث عن الرموز الوطنية في وسط المهندسين الليبيين، والأطباء الليبيين. إن معنى كلمة الثقافة الوطنية أن هناك آخر وهو الثقافة غير الوطنية. إنه تفكير من بقايا الأيديولوجيا يسعى دائماً لصنع آخر لمحاربته، وهو في الحقيقة ليس أكثر من طواحين دون كيشوت. أنا أعترف بالإنجاز والعمل وبذل الجهد وتحصيل العلم، أما “رمز” فلا أعتقد أنها تعني شيئا بالنسبة لي.

مقالات ذات علاقة

هدى عبداللطيف .. سيدة المتناقضات والرقم الصعب

أسماء بن سعيد

الشاعر والروائي عبد السلام سنان….هذا الزمن هو زمن الرواية بكل المقاييس

مهند سليمان

محمد الهريوت: لم يكن في خارطة حياتي أن أكون شاعراً فكل أهدافي بحثية علمية

المشرف العام

اترك تعليق